هناك نظرية في الغرب تسمى “Five to Five” والتي تقول بأن أي مشكلة تواجهك بالحياة يجب ألا تأخذ من تفكيرك أكثر من خمس دقائق، ما دامت لن تؤثر على السنوات الخمس القادمة من حياتك.
بالنسبة للشخص من ذوي الإعاقة فإن أكبر تحدٍ يواجهُه هي نظرات الاستغراب والشفقة من قبل غرباء لا يعرفون عنه شيئاً، والأسوأ منها نظرات السخرية! وفي بعض الأحيان تكون أقصى أحلام ذوي الإعاقة الحركية أن يمشي بشارع مكتظٍ بالمارة دون أن يكترث أحدٌ لوجوده!
لذلك غالباً ما يختارُ البقاء وحيداً داخل غرفته وعالمه الخاص ويقلل الاحتكاك بأفراد المجتمع، خاصةً إذا لم يملك الحصانة النفسية الكافية بحيث لا يتأثر بكلمات ونظراتِ الشفقة، وإلا فإن عليه المشي بطرقات مهجورة أو قليلة الازدحام.
بالنسبة لي، لم أكن يوماً مِمَنْ يهرب من الواقع، فرغم إعاقتي تعلمتُ كيف أكون قوياً لأواجه تلك النظرات دون أن أتأثر بها، فتراكم المواقف المشابهة بالمجتمع والجامعة والوظيفة جعلت مني شخصاً لا يبالي ولا يكترث، لدرجة أنَّ أي موقفٍ مشابهٍ لا يؤثر في نفسي أكثر من خمس دقائق.
ومن بين هذه المواقف القاسية التي تعرضت لها ولا يمكن أن تنسى، عندما طلب مني صديقي بأن أكون كفيله لقرض يريد سحبهُ من أحد المصارف العامة، وبحكم أنني حاصل على شهادة جامعية أهلتني للعمل في وظيفة حكومية، فقد ذهبت بصحبته للتوقيع على الكفالة، انتظرتُ واقفاً لعشر دقائق في بهو بناء المصرف حتى وصلت إلى كوة وراءها موظفتين اثنتين، وما أن اقتربتُ حتى سمعتُ احداهما تقولُ للأخرى: “هذا منقبل كفالته؟” لتجيبها الموظفة الأخرى: “اسأليه إذا يعرف اسم الكفيل وبصميه بيمشي الحال”.
لا أدري كم شعرتُ بالغصة والانكسار حين لم تنفع وظيفتي وشهادتي الجامعية، ولم تكن رصيداً كافياً لتجنب هكذا موقف، لم أحاول النقاش أو حتى محاولة تغيير قناعتهم، جاوبتُ عن اسم الكفيل وبصمتُ بإصبع ابهامي الأيسر في المكان الذي أشارت لي به وكأني شخصٌ أميٌ لا يعرف القراءة والكتابة، وخرجتُ من المصرف وفي قلبي غصة لا يمكن تجاوزها بسهولةٍ.
وفي طريق العودة بدأتُ أفكرُ كيف أن الموظفين في بلدي يدخلون إلى الوظيفة العامة دون أي تدريب أو دورة من دورات التنمية البشرية؟ فلماذا لا نصلُ إلا مرحلة يحصل فيها الموظفون على إرشادات عامة بكيفية التعامل مع مختلف أصناف البشر بطريقةٍ لبقةٍ وحضارية، ومن ضمنهم الأشخاص ذوي الإعاقة.
لا أريدُ أن أعمم وأقول بأن غالبية الموظفين هكذا، فالقسم الأعظم منهم لديه الاحترام واللباقة التي اكتسبها للتعامل بمحبة وإنسانية، ولكن هناك مشكلة عند البعض ممن ينظر إلى شخص مثلي يعاني بعضاً من الشلل الدماغي ومشيته غير متزنة، بأنه مسكين أو معتوه أو “ع البركة”!
كتابة: مياس سلمان