حتى صباح السابع من ديسمبر كانت رشا خازم تعتقد أن سقوط بشار الأسد أو هروبه شيء مستحيل، «ممكن يتسبب بموت كل العالم ولا يهرب»، تقول الشابة الصمّاء مستعيدة ذكرياتها عن الأيام القليلة التي سبقت سقوط نظام الأسد، بينما تتولّى فرح التل وهي مترجمة رسمية للغة الإشارة تحويل ذكرياتها إلى كلمات.

تعيش رشا (23 عاماً) مع والديها الأصمّين منزلاً متواضعاً في حيّ «أسد الدين»، وهو حي عشوائي على أطراف جبل قاسيون في العاصمة السورية دمشق. عانت الأسرة على امتداد الحرب تحديات مضاعفة فحاسة السمع غير موجودة في المنزل للتنبيه الاستباقي من أي خطر خارجي، وهذا يجعل الخوف من المجهول حاضراً في كل تفاصيل الحياة. لم يكن أفراد الأسرة يظنّون أنهم سيختبرون هذا الشعور من جديد بعد أن ظلت دمشق في منأى عن المعارك والاشتباكات منذ أعلن نظام الأسد محافظتي دمشق، وريف دمشق «آمنتين بالكامل تحت سيطرة الجيش» في أيار 2018. لكن الموازين انقلبت فجأة في زمن قياسي بعد أن سيطرت «هيئة تحرير الشام» وحلفاؤها في المعارضة المسلّحة على مدينة حلب في 29 نوفمبر، وواصلت تقدمها بسرعة كبيرة نحو حماة وحمص في وسط البلاد.

مع تهاوي قوات النظام السابق في حماة وحمص صارت احتمالات وقوع معارك عنيفة في دمشق حاضرة في حسابات سكان العاصمة، ومن بينهم رشا التي بدأت وعائلتها جملة استعدادات احترازيّة على رأسها ضمان مصدر طاقة يوفر شحناً مستمرّاً لبطاريات الهواتف الخلوية، مع إبقائها في متناول اليد وتفعيل وضع الاهتزاز طوال الوقت لأنه الطريقة الأفضل لإثارة انتباه الصم في ظل تعذر سماع صوت الرنين. اشتملت الإجراءات أيضاً على تفعيل ما يشبه «الخط الساخن» بين رشا من جهة، وبعض المترجمين المتخصصين في لغة الإشارة من جهة أخرى، وبشكل خاص فرح التل لأنها تسكن قريباً.

لا يجيد والدا فرح القراءة ولا الكتابة، ولهذا تقتصر مصادر الأخبار التي يمكنهما اعتمادها على مقاطع الفيديو التي تتضمن شرحاً بلغة الإشارة. توضح فرح أن تناقل الأخبار بين الصمّ عادة ما يكون سريعاً جدّاً بفضل مجموعات مغلقة عبر موقع فايسبوك، وأخرى عبر تطبيق واتساب يتبادلون عبرها نصوصاً مكتوبة، ومقاطع فيديو يتحدثون فيها بلغة الإشارة. أما رشا فتتقن القراءة والكتابة جيداً، وتعمل مدربةً على لغة الإشارة، كما تدير فريقاً اسمه Creadeaf (في دمج بين مفردتي creative، وDeaf).

قبل ليلتين من سقوط النظام دخلت الإجراءات الاحترازية في منزل رشا مرحلة جديدة، مع الخشية من حصول اقتحامات للمنازل في حال وصول المعارضة المسلحة إلى دمشق ومقاومة قوات النظام لها، وانصبّ اهتمام الأسرة على باب البيت لا سيّما مع قدوم الليل. تعتمد الأسرة على إنارة خاصة موصولة بزر الجرس، بحيث تومض الإنارة حين يُقرع جرس الباب فيلفت الضوء الانتباه، لكن مع الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي فرُغت بطاريات المنزل التي يُعتمد عليها لإبقاء تلك الإنارة فاعلة طوال الوقت. «قررنا أن ننام بالتناوب»، تشرح رشا، وتضيف: «قسّمنا الليل إلى ورديّات، بحيث يبقى أحدنا مستيقظاً يراقب الباب، ويتابع في الوقت نفسه ما يصل من أخبار».

حين انتشرت أنباء سقوط النظام كانت «نوبة الحراسة» من نصيب رشا، فيما كان والداها نائمين. فجأة دخل هاتفها الخلوي في نوبة مستمرة من الاهتزاز، وتتالت الإشعارات. «وصلتني رسالة مصورة من صديقٍ أصم أخبرني عبرها أن النظام قد سقط، أجبته: مستحيل!». اختلطت مشاعر رشا، شعرت برغبة كبيرة في مواكبة الحدث عبر التلفاز لكن البيت كان بلا كهرباء. اتصلت بالمترجمة للتأكد من دقة الأخبار التي كانت تطالعها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فأكدت لها الخبر. «هنا قررت إيقاظ أبي. بعد أن فتح عينيه أخبرتُه بأن النظام قد سقط، فردَ: هذا مستحيل، قد تكون خدعة، ربما اختبأ، ربما هذا كمينٌ من المخابرات، هم أقوياء ومتوحشون، لا بد أنهم يُحضرون شيئاً ما». دخل والد رشا ما يشبه نوبة تحت ضغط الرعب، وتعاظمت المخاوف من وقوع مصيبة ما يحضرها النظام. لكن بمرور الوقت بدأت الأسرة تستوعب أن الخبر حقيقي، وأن الأسد فرّ والنظام سقط بالفعل.

جاءت تلك اللحظات تكثيفاً لرعب طبعه نظام الأسدين لعقود في أذهان السوريين، يظل حاضراً في اللاوعي ليستيقظ مع أول حدث يغذيه. كان هذا الحدث بالنسبة لرشا وعائلتها هو انسحاب النظام السوري من حلب في أواخر شهر نوفمبر الماضي. واكبت رشا تفاصيل ما شهدته حلب من خلال «مجتمع الصمّ» هناك. «رسّخت مجريات حلب خوفَنا، خاصة مع أنباء الغارات الجوية التي شنّها الطيران (الروسي والسوري) وأودت بضحايا مدنيين»، تقول.

بعد تأكدهم من سقوط النظام بساعات جلست رشا خازم لتبادل الأفكار مع والديها. كان نقاشاً صاخباً رغم أنه لا يحتوي على كلمات. «توافقنا على أن حياتنا قد تتغير نحو الأفضل، لكننا نعرف أيضاً أن أمامنا تحديات كثيرة لأننا سوريون في الدرجة الأولى، ولأننا صمّ أيضاً». تؤكد الشابة أنّ معظم ما كان النظام السابق يشيعه من دعمه للمعوّقين لم يكن دقيقاً. «كان هناك دعم بالفعل، لكنه لم يكن عادلاً. حتى في دعم المعوقين كانوا انتقائيين، وكان التمييز حاضراً بشدة. أتمنى أن يتغير هذا الحال، وأن نستطيع المشاركة بآرائنا، ألا نكون مجرد متلقين ومنفذين».

لا تتوافر إحصاءات دقيقة لعدد المصابين بإعاقات سمعيّة في سوريا. وفيما تشير تقديرات حكومية سابقة إلى وجود نحو 20 ألف مصاباً بالصمم، تؤكد مترجمة الإشارة فرح التل استناداً إلى مسوحات وتقديرات دولية أن العدد «قد يكون خمسة أضعاف ذلك». تشير إحصاءات منظمة الصحة العالمية إلى أن نسبة الصمم حول العالم تقارب 5% من السكان، فيما تشرح فرح أن المعدلات في سوريا تفوق المعدل العالمي على الأرجح لا سيّما في ظل الإصابات التي نجمت عن الحرب، سواء بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر من جرّاء تزايد حالات زواج القاصرات، وارتفاع نسبة زواج الأقارب في بعض المجتمعات المحلية. ووفق تقديرات منظمات أُممية، تُقدر نسبة المصابين بمختلف أنواع الإعاقات في سوريا بما يراوح بين 28 – 30% من السكان، وهو ضعف المعدل العالمي البالغ 15 %.

تنظر رشا خازم إلى المستقبل بتفاؤل حذر. لا تستطيع تجاهل كثير من المخاوف، تُخبرنا بينما تضحك بأن أكبر المخاوف «عودة بشار الأسد»، ثم تواصل بجدية أكبر متحدثة عن الخوف من الفوضى، ومن وقوع اقتتالات بين فصائل المعارضة المسلحة في مرحلة ما.

كتابة: صهيب عنجريني، نشرت في موقع New Lines magazine