نتشارك معكم “دراسة الحالة” التالية والتي أعدتها المعالجة النفسية ‘خلود هنيدي’، كجزء من اهتمامنا بفهم العوامل النفسية التي تؤثر على الأمهات المعيلات لأطفال من ذوي الإعاقة، والتي قد لا تكون مرئية بوضوح ولكنها تلعب دوراً حاسماً في تحديد استراتيجات العلاج الفعالة.
حضر أمجد (اسم مستعار، عمره 7 سنوات) إلى العيادة برفقة والدته التي لم تستطع أن تخفي خيبتها من وجود طفلٍ كأمجد ضمن أسرتها “النموذجية”.
عانى أمجد من ضعفٍ شديد في النظر، لم تستطع نظارته ذات العدسات السميكة أن تجعله قادراً على القراءة أو متابعة أفلام الصور المتحركة بشكلٍ جيد، بالإضافة إلى حَوَلٍ وحشي في عينه اليمنى جعل التواصل البصري معه صعباً. خلال الجلسة وجّهتُ مجموعة من الأسئلة للأم محاولةً تجنّب تلك التي قد تسبب للطفل أي ارتباك، معلنةً له أنني سأتوجه إليه ببعض الأسئلة أيضاً.
القصة حسب رواية الأم:
أمجد هو الطفل الثالث في الأسرة وقد وُلد بعد أختيه (12سنة و9 سنوات)، تحدّثت الأم عن ظروف حملها بأمجد، الذي حدث تلبية لرغبتها ورغبة زوجها بإنجاب طفلٍ ذكر، وعن فرحتها حين عرفت جنس الجنين.
منذ أن فتح أمجد عينيه اكتشف الوالدان حَوَلاً واضحاً في العين اليمنى جعلهما في حالة إحباط. لم يقم الوالدان بأي إجراءٍ خاص، بناء على اقتراح طبيب الأطفال، إلى أن أصبح عمر أمجد ثلاثة أشهر. تم بعدها عرضه على طبيبٍ مختص وتبيّن أنه يعاني من ضعف في عضلات العين سيؤدي إلى ضعف البصر لوقت غير محدود.
كبر أمجد في غياب والده الذي يعمل في الخليج، والذي يزور عائلته شهراً واحداً كل سنة.
ولدى سؤال الأم عن تطور طفلها في مراحل نموه المختلفة قالت إنه توقّف عن الرضاعة عندما بلغ ستة أشهر حين انتبهت أن حليبها لا يكفيه فبدأت بإعطائه الحليب المصنّع. تقول: “حينها امتنع كلياً عن الرضاعة مني كما لو أنه يعاقبني”.
أكملت حديثها عن تطوّر أمجد فأخبرتني أنه استطاع المشي بعمر سنة وأنه بدأ بالكلام قبل السنة، وبهذا اعتبرت الأم أن طفلها طبيعي وتفاءلت بأنه سيشفى من مشكلة الحَوَل قريباً.
خلال السنة الثانية من عمر أمجد بدأت تظهر عليه علامات سوء المزاج: يبكي معظم الوقت أو يصرخ أو يرمي ألعابه بعصبية وهذا ما جعل شعور والدته بالإحباط يتجدد، خاصة أنها لم تختبر أية مشكلات مزاجية مع طفلتيها، فقد اتسمت طفولتهما المبكّرة بالهدوء والرضى.
لم تكن لدى أمجد رغبة باللعب مع أولاد الجيران والأقارب، وإن حدث ولعب معهم كان يؤذيهم ويزعجهم.
في عمر الروضة كان أمجد قد تعلّم أن يُبلغ والدته عندما يرغب بالتبول أو التغوّط، لكنه ومنذ الأسبوع الأول لدخوله الروضة بدأ بالتبوّل في فراشه والاستيقاظ ليلاً فزعاً، وأصبح أكثر عدوانية تجاه أختيه وأمه ورفاقه، وبدأ يرفض مكالمة والده فيرمي الهاتف بعيداً أو يهرب إلى غرفةٍ أخرى.
خلال هذه السنوات بالطبع لم يتوقف والداه عن متابعة مشكلة البصر لديه، لكن المشكلة كانت تتفاقم إذ بدأ ضعف البصر يزداد وأصبح أمجد يعاني مما يسمى ‘كسل الرؤية’، وسرعان ما أصبح هذا معيقاً أمام أية أنشطة يرغب في ممارستها.
في الصف الأول اشتكت معلمته من صعوبة طباعه وعناده ومناكدته لرفاقه في الصف، ووصفته بأنه طفل غير محبوب يتجنبه الأولاد ويزعجونه بدورهم بإطلاق النكات حوله وحول شكل عينه ونظارته السميكة، مما يزيده غضباً وبالتالي عنفاً. وهذا ما يمكن اعتباره الشكوى الأساسية للأم التي بسببها أحضرته إلى العيادة النفسية.
تحدثت الأم عن مشاعرها، وعما تتحملّه من أعباء في ظل غياب الزوج، وطلبت أن نتحدّث في جلسة أخرى عما تحسه وعبّرت عن رغبتها “بالفضفضة”.
القصة حسب رواية أمجد
عند سؤالي للطفل أمجد عما يزعجه في المدرسة قال بأن المعلمة وبعد أن وافقت على جلوسه في المقعد الأول عادت وعاقبته بإرجاعه إلى المقاعد الخلفية، وأنه لهذا السبب لم يعد يتمكن من رؤية ما تكتب على السبورة، ولا يستطيع أيضاً أن يسمع لأنه أصبح بعيداً جداً عن المعلمة فالأولاد في الصف لا يتوقفون عن الصراخ. وتحدّث أيضاً عن قدرته على الإجابة عن أسئلتها لو أنه تمكّن من رؤية السبورة.
عبّر عن رغبته بترك المدرسة لأنه يكرهها ويكره كل من فيها: “بدي ضل آخذ 5 من 10 وما رح أتعلم شي بهالمدرسة”.
بدأتُ خطة العلاج بالاتفاق أولاً مع أمجد على الحضور إلى العيادة مرةً كل أسبوع والبقاء لمدة نصف ساعة، واتفقنا على أننا سنختار في كل مرة نشاطاً مختلفاً. وفي الوقت نفسه اتفقت مع والدته على مشاركتي بأي جديد. وعلى الحضور بمفردها لتخبرني بما ترغب.
منذ الجلسات الأولى مع أمجد بدأنا العمل على لعبة الكلمات، حيث يختار هو كلمة فأقول أنا كلمة أخرى مرتبطة بها بالمعنى أو بطريقة اللفظ، ومع الوقت انتقلنا للعبة أخرى وهي التعرّف على الأغراض باللمس، أظهر أمجد ذكاءً لافتاً في اللعبتين. وفي الجلسات التالية وبعد أن تبادلنا ما نعرفه من حكايات استطعنا تأليف مشاهد مسرحية صغيرة وتمثيلها، وقد تركت له حرية اختيار الفكرة وتحويلها إلى سيناريو وحوار.
في كل جلسة كنت أوجّه له سؤالاً أو أكثر عن المدرسة أو عن أختيه، بدأ بالتدريج يتجاوب مع الحديث أكثر ويتفاعل معي من خلال النشاط ثم انتقل ليفتح هو الأحاديث دون أن أضطر لسؤاله.
وفي الجلسات الخاصة بالأم اكتشفت والدة أمجد خلال زمن قياسي أنها ستتمكن من لعب دور أساسي في مساعدة ابنها فقد عملت جاهدة على تحويل شعورها بالإحباط، والذي سيطر عليها بعد ولادة أمجد واكتشاف مشكلته، إلى عزيمة ورغبة حقيقية في جعله يتخطى ألمه النفسي. خلال هذه الفترة استطاعت أن ترى بابنها طفلاً ذكياً يمتلك العديد من القدرات ويستطيع أن يبرع فيها. ساعدته على رؤية ما الذي يمكنه فعله مما أشعره بالفخر.
بالتوازي مع ما حاولت الأم أن تقوم به في المنزل مشركةً أختيه ووالده (عبر مكالمات الفيديو أو في الإجازات)، كانت تزور المدرسة بانتظام وتتابع عن قرب أكثر وضع أمجد بين رفاقه ومدى تجاوبه مع المعلمة.
وجد أمجد في المشاهد التي كنا نؤديها خلال الجلسات مادة للتقرب من رفاق الصف، واستطاع باقتراحه تمثيل المشاهد في المدرسة أن يكسب العديد من الأصدقاء وأن يخفض عدوانيته تجاههم، وبالمقابل أصبح رفاقه في الصف أقل تنمّراً وأكثر لطفاً.
وفي انتظار عملية تصحيح النظر، التي وصل أمجد إلى عمرٍ يمكنه من إجرائها، أصبح أيضاً أكثر تفاؤلاً وثقة.
في التعامل مع الأطفال ذوي الإعاقة سواء البسيطة أو المعقّدة نحتاج إلى جهودٍ مشتركة:
- العمل مع الأم ساعد في أن تدرك ما لدى ابنها من إمكانيات كبيرة ومدى احتياجه لحبها ومساعدتها.
- التواصل مع الأب بهدف مساعدته على أن يأخذ دوره رغم سفره، جعل أمجد يشعر بوجوده أكثر وينتظره ويشاركه أخباره الجديدة.
- تواصل الأم مع المعلمة وشرح ظروف أمجد وأثر ضعف البصر على صبره وإنجازه الدراسي، خلق لدى المعلمة تحدياً مرتبطاً بمساعدته على الوصول إلى المعلومة بطرق عديدة، وبالتالي تحسين مستواه الدراسي.
- العمل في الجلسات مع أمجد نفسه ساعده على أن يدرك حجم ما يمكنه أن يفعله، وأن يضع العديد من الأهداف وأن يسعى لتحقيقها ببصيرته وليس فقط ببصره.
ختاماً، يمكننا القول إن نجاح أمجد أو أي طفل في موقعه مرهونٌ بإيمان والديه وخصوصاً أمه به، فقد تحوّلت والدة أمجد إلى عين يرى ابنها من خلالها العالم ويتفاعل معه دون أن تخلق منه طفلاً اتكالياً أو معتمداً، وهكذا تحولت الأم ببساطة إلى “ملاكه الحارس”.