“مثلها مثل أي شيء آخر غير مجهّز لنا في هذه البلاد” هكذا بدأ الشاب ‘محمد قصار’ حديثه عن الخدمات المقدمة في المطاعم والمقاهي والمولات لتسهيل حركته وأقرانه من الأشخاص ذوي الإعاقة الحركية، لافتاً إلى أنه يجد صعوبةً كبيرة في ارتياد هذه الأماكن، مما يضطره دوماً لطلب المساعدة من الزبائن أو العاملين في المنشأة ليستطيع الوصول إليها، وهو ما يُشعِرهُ بالانزعاج وعدم الراحة.
وأشار قصار إلى أن واقع هذه الأماكن جعله يعزف عن الدخول إليها في الكثير من الأحيان، فالمساحات بين الطاولات ضيّقة جداً ولا تتسع لمرور الكرسي المتحرك ولا حتى للجلوس على الطاولات، متطرّقاً إلى معاناة أخرى وهي الحمامات الضيّقة التي تفتقد للتجهيزات المخصصة لأصحاب الإعاقة، مضيفاً: “كل ذلك ولم نتحدث عن صعوبة وصولنا إلى هذه الأماكن بسبب المواصلات غير المأمنة، وعدم تجاوب السائقين في تقديم المساعدة، فضلاً عن الأرصفة المزدحمة التي تستخدم لركن السيارات”.
لم ينفِ الشاب الجامعي وجود بعض الخدمات المريحة في نسبة قليلة جداً من المنشآت، ففي أحد المولات اكتشف وجود رامبات كهربائية (أسطح مائلة للكراسي المتحركة) إلى جانب الدرج الكهربائي، ساعده ذلك على التنقل بنفسه دون طلب المساعدة من أحد، متمنيّاً لو يتم تعميم هذه التجربة على عدد أكبر من المنشآت.
تشير التقارير الأممية إلى أن حوالي 28% من السوريين هم من ذوي الإعاقة، معظمهم من الأطفال، وهذه النسبة تتجاوز المعدل العالمي الذي يتراوح بين 10 إلى 15 في المئة من مجمل السكان. تلك الأرقام المرتفعة ناجمة عن عدة عوامل أبرزها الحرب، بالإضافة إلى عدم تلقي الرعاية الطبية الضرورية أو اللقاحات اللازمة. وبالتالي نحن نتحدث عن أكثر من ربع المجتمع السوري، وهو ما يستدعي من مقدمي الخدمات وأصحاب المنشآت إعادة النظر في كيفية التعاطي مع هذه الفئة من السكان وتوفير الخدمات المخصصة لهم بالتوازي مع البقية.
مغامرة غير محسوبة النتائج
‘معين العرنجي’ مدير أحد المطاعم في محافظة دمشق اعتبر خلال حديثه مع ‘منصة عكازة’ أن وضع رامبات في مطعمه يعد مغامرة من حيث عدم معرفة نسبة الأشخاص ذوي الإعاقة الذين سيفضلون الدخول إلى مطعمه، وهو كتاجر لا يستطيع أن يضع ليرة واحدة في مشروعه دون أن يكون متأكداً من الربح، خاصة في الوقت الحالي الذي تزداد فيه التكلفة الاقتصادية على أصحاب المنشآت بشكل شبه يومي، معترفاً بوجود خسارة له كتاجر ولكن الصعوبات الحالية فاقت كافة التوقعات بحسب تعبيره.
من جانب آخر يبرر مدير أحد المولات في مدينة جرمانا بريف دمشق، عدم وجود مصاعد تمّكن ذوي الإعاقة من الصعود إلى الطوابق العليا، بأن المنشأة قديمة ولا يوجد إمكانية لتحديثها بسبب ارتفاع أسعار التجهيزات، لافتاً إلى أن وجود المول في مدينة مكتظة بالسكان يعد سبباً لعدم الشعور بالخسارة، لكنه أكد بأنه سيضطر لاحقاً إلى تحديث المنشأة وتوفير تسهيلات لذوي الإعاقة، وهو ما سيعود بالفائدة على كلا الطرفين.
في الملتقيات الجامعية أيضاً، غفل المستثمرون عن تخديم طلاب الجامعات من ذوي الإعاقة، الأمر الذي يمنعهم من التواصل والتفاعل مع أقرانهم، حيث أشار مستثمر أحد المقاهي الجامعية بمنطقة البرامكة بدمشق، إلى وجود نسبة لا بأس بها من طلاب الجامعة من أصحاب الإعاقة الحركية الذين يتمنى استقبالهم في مقهاه، موضحاً أن الأمر لا يقتصر على خسارة زبون معوق واحد، بل قد يمتنع كافة أصدقائه من الدخول إذا لم يتمكنوا من الجلوس معه. مبرراً عدم تخصيص تجهيزات مثل الرامبات أو الحمامات المخصصة إلى عدم منحهم الموافقة من قبل الجهات المعنيّة، لأنها تعتبر ذلك تغييراً في مواصفات البناء.
خدمات ذات منفعة اقتصادية
المدير التنفيذي لجمعية جذور التي تعنى بالأشخاص المصابين بمتلازمة داون ‘هاشم النجار’، اعتبر في تصريح خاص لـ ‘عكازة’ أن الأهم من تخصيص خدمات لهذه الفئة، هو تقبل المجتمع لهم واعتبارهم أشخاصاً أساسيين فيه، سواءٌ أكانوا من أصحاب الإعاقة الذهنية أو الحركية، فالمطلوب بدايةً هو تغيير نظرة المجتمع لهم والتعامل معهم على أنهم أفراد فاعلون وقادرون على التواجد في أي مكان.
وأكد النجار أن الأعداد المتزايدة من الأشخاص المعوقين بعد الحرب تستحق توفير خدمات موجهة لهم في المطاعم والمقاهي، دون أن تكون النظرة التجارية هي الغالبة، مؤكداً أن هذا الأمر يعود بالنفع الحتمي على صاحب المنشأة، ويعد بمثابة دعاية مجانية له نتيجة الانطباع المجتمعي الإيجابي تجاه الأماكن التي تقدم مثل هذه الخدمات.
منشآت دخلت على خط التخديم بخجل
الأطفال ذوو الإعاقة محرومون أيضاً من ارتياد المطاعم وأماكن الترفيه، بمن فيهم ‘مجد’، طفلٌ من ذوي الإعاقة الحركية يبلغ من العمر 13 عاماً ويعيش في حمص. يعّبر مجد بحزن عن عدم تمكنه من زيارة المطاعم وأماكن اللعب مثل بقية أصدقائه، وما يزيده حسرة هو سفر والده الذي كان يحمله إلى تلك الأماكن عادة، مضيفاً: “أتمنى لو أن أصحاب المطاعم يجدون الطريقة لإزالة تلك الأدراج، لتكون جميعها على مستوى الأرض وبمداخل واسعة، بحيث يمكنني الذهاب إلى هناك دون إحراج أو مساعدة من أحد”.
في هذا السياق، أشارت ‘نظمية اسماعيل’ العاملة في إحدى الجمعيات المخصصة لذوي الإعاقة في طرطوس، إلى المعاناة الكبيرة التي يواجهها أهالي الأطفال ذوي الإعاقات المختلفة نتيجة قلة الأماكن المخصصة للعب وندرة الخدمات الموجهة لهم. وأضافت: “مؤخراً قامت بعض المطاعم بإنشاء غرف خاصة وضعت فيها ألعاباً ترفيهية ومراجيح مجهزة لهؤلاء الأطفال”، معتبرة أن هذه التغييرات ساهمت في تحقيق عوائد مالية إضافية لأصحاب تلك المنشآت.
الواقع الذي حاولنا استعراضه في هذه المادة يقودنا إلى التفكير بأسباب إغفال فئة الأشخاص ذوي الإعاقة من حسابات مقدمي الخدمات، فلو اختبر صاحب المنشأة نفسه تجربة الإعاقة، لا بد أنه كان سيضع عقل التاجر جانباً ويفكر في تخديم هذه الشريحة من السكان، ولو كان هناك قانون يُلزم أصحاب المنشآت بتخصيص خدمات معينة لأصحاب الإعاقة ضمن شروط الترخيص لما تذرع المستثمرون بقلة الحيلة. فنحن نتحدث عن نسبة “ربع المجتمع” وهو رقم يستدعي التوقف عنده والتفكير بجذبه والاستفادة منه عوضاً عن تجاهله واهماله.
كتابة: جلنار العلي