لا يتوقف غضب الطبيعة عن إدهاشنا بالمآسي، فيما تقضي الحروب والكوارث على كل ما هو جميل، مخلفين آثارٍ على شكل ساقٍ بترها زلزال، أو إصبعٍ قضمه انفجار، أو طرفٍ شقّته رصاصة، أو عينٍ أطفأها لغم.
هذه ‘الإعاقات الطارئة’ أو ‘المستجِدّة’، أي التي تصيب الأفراد نتيجة حادث ما وليس عند الولادة، تتسبّب بتغييرات مفاجئة في حياتهم، ولا تكون لحظات المواجهة الأولى معها هيّنة، لا سيما أنها تترافق مع صدمات نفسية ناجمة عن هول ما رأى المُصاب، أو تتزامن مع خسارة شخص قريب أثناء الحادثة.
تتحدّث المعالجة النفسية خلود هنيدي عن نظرة الإنسان ‘للإعاقة الطارئة’، قائلةً إن “الإنسان يكبر وهو يرى أجزاء جسده كأنها هيكل واحد، وعندما يخسر عضواً منها يعيش مرحلة تجزّؤ، فيشعر بتشظّي جسده”، عدا عن الأفكار التي تثقل كاهله، مثل: “كيف سينظر الناس إليّ؟ وكيف سأتابع حياتي بعد هذه الخسارة؟”.
غير أنّ الإجابات غالباً تكون جاهزة، ويستحضرها من خياله الذي ينسج سيناريوهات سوداوية عن الحياة بعد الإعاقة، تضيف هنيدي. وتعزّز هذه الأفكار نظرة بعض المجتمعات للشخص المعوّق، التي تجعله يقلق من عدم تقبّل الناس له وتنمرهم عليه وتهميشهم له. إضافة إلى العوائق التي تعترضه بمختلف نواحي حياته، لا سيما في “المجتمعات العربية التي لا توفر البيئة الدامجة للأشخاص المعوقين وظروف الحياة الملائمة”، كما تقول هنيدي.
من الإنكار إلى التأقلم
هرع حسين الخشعي يوم 7 تموز عام 2019 لإسعاف صديقه الذي أُصيب بلغم في ريف محافظة شبوة جنوب اليمن، فباغته لغم آخر عند وصوله. يتذكر حسين قائلاً: “صحوتُ في طريقي إلى المستشفى محاولاً فتح عينيّ، فلم أشاهد غير السواد، كانت تلك المرة الأولى التي أستخدم فيها حاسة اللّمس لأجد إجابة عن أسئلتي”.
بعد إجراء التحاليل الطبية، سمع حسين من طبيبه أنّه فقد حاسة البصر كلياً، وعليه أن يعتاد حياته الجديدة. كانت الكلمات صادمة وعصيّة على الفهم. “هل يقصد أنني لن أرى بعد اليوم؟ أيّ حياة جديدة التي يتحدّث عنها؟ هذا الموت بعينه، لا شكّ أنّه يبالغ”، تساءل حسين في قرارة نفسه.
مرّ الشاب الثلاثيني بمرحلة إنكار الإعاقة. يعود بالذاكرة قائلاً: “لم أتقبّل أنا وأسرتي الواقع الجديد، تنقّلت من طبيب إلى آخر بحثاً عن علاج، غير مكترث لصوتي الداخلي الذي يقول: لا فائدة من ذلك”. أضناه البحث، حتى سمع نصيحة أحد الأطباء بأن يكفّ عن استنزاف أمواله سُدى بعدما فقد العصب البصري.
يعد هذا السلوك، وفق هنيدي، “آلية دفاعية غير واعية تتسم بعدم إدراك وتقبل ما حصل وتسمى ‘الإنكار’، قد تستمر لوقت طويل، ذلك أنّ غياب ردود الفعل لا يدلّ على عدم قدرة الفرد على التحمّل، بقدر ما يدلّ على إنكاره ما يمر به”.
عطّل حسين حياته سنة كاملة نتيجة الإعاقة، رافضاً الخروج من المنزل ومخالطة الناس، حتى تمالكه اليأس وعدم الجدوى من المضي في حياة لا يستطيع فيها “قيادة سيارة أو قراءة كتاب، أو استعمال هاتف، أو العمل وإعالة الأسرة”، كما يقول.
تغيّر كل ذلك حين تعرّف، عن طريق جمعية تُعنى بتأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة، إلى آلية القراءة ‘البرايل’، والبرامج الناطقة في الهاتف الذكي. وها هو اليوم يتابع دراسته في كلية العلوم الإنسانية، “رغم الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد، افتتحت بقالة صغيرة في القرية”، يختم حديثه بتقبّل وأمل.
“انتظرت الليل لأبكي”
رفض محمد أسدودي (37 عاماً) في البداية بتر ساقه اليُمنى بعدما أُصيب برصاص أثناء مشاركته في مسيرات العودة بقطاع غزة في آب عام 2018. عاش محمد رحلة علاج شاقة، لم ترافقه فيها غير مسكّنات الأوجاع التي لم تفلح في تهدئة آلامه. وبعدما خضع لأكثر من 67 عملية جراحية في قطاع غزة ومصر وتركيا بحثاً عن حلّ بديل للتخلّي عن ساقه، فقد قدرة تحمّل الأوجاع، واستسلم لخيار البتر بعد عامين من التهرّب منه، واصفاً إيّاه بـ “الحدث الأقسى والأصعب والأكثر إيلاماً لكلّ العائلة”.
قرّر محمد بتر ساقه من أسفل الركبة، آملاً في تركيب طرف صناعي بعدها يُمكّنه من المشي على عكاز. لكنّ آماله تحطّمت عندما قرر الأطباء بتر المفصل أيضاً. عندها، مُني بآلام نفسية جمّة ظلّت مكبوتة، لم يتسنَّ له عيشها كما يجب حفاظاً منه على قوته أمام عائلته. يروي: “كنت أنتظر الليل لأبكي بعيداً عن أعين أولادي”. وتعزو هنيدي ردة فعله إلى “تفكيره بالسلوك المتوقع منه، ما يعني أنه تصرّف وفقاً لتوقعات الآخرين عنه”.
وجد محمد حياته بعد البتر “مختلفة تماماً”، فلم يعد باستطاعته مواصلة عمله في المقاولات، وصار يحسب عدد درجات السلّم الإسمنتي في كلّ مرة يرغب فيها بالخروج من المنزل. وإلى جانب ألم الفقدان والتغيّرات التي عاشها بعد البتر، تعرّض لإحباطات متكررة نتيجة سوء المعاملة والنظرة المجتمعية “الجارحة” لذوي الإعاقة التي تركت في نفسه شعوراً بالعجز.
تخطى محمد ذلك كلّه، وتصالح مع إعاقته إلى حدّ بعيد، عندما اكتشف مواهباً وطاقات كامنة فيه لم يدركها قبل بتر ساقه. لاحظ مثلاً، أن بإمكانه طلاء جدران منزله بينما يجلس على كرسي متحرك، وأنه مستمع جيد للآخرين، يخبرونه مشاكلهم ويساعدهم على حلّها، “صاروا يعرفونني بالمصلح الاجتماعي”، يقول مبتسماً.
“تأخرتُ لأعي أنني خسرت أكثر من شقيقي”
استغرق حسين صوّان (39 عاماً) فترة طويلة ليعيَ أنّه خسر أكثر من شقيقه في انفجار مرفأ بيروت في 4 آب عام 2020، وأنّه خرج من الانفجار يحمل إعاقة دائمة، تتمثّل ببتر إصبع في يده اليمنى، وفقدان القدرة على تحريك إصبع آخر جرى ترميم عظامه، مع ضعف القدرة على استخدام ثالث في اليد نفسها، ما يعني تعذّر استخدام اليد اليمنى التي اتكّل عليها في حياته، بالإضافة إلى اضطرابات متكررة في السمع والنظر.
كان حسين يصطاد السمك برفقة شقيقه عندما وقع الانفجار. “ابن البحر”، كما كان يطلق على نفسه، ما عاد يتحمّل زيارة البحر وممارسة هوايته الوحيدة في الصيد. فهناك قضى شقيقه، وهناك أيضاً طبعت الإعاقة في أصابعه ذكرى أليمة لن ينساها.
عند الانفجار رأى حسين رمالاً تتطاير ومياهاً تصعد إلى الكورنيش، ثم استيقظ في المستشفى على صوت الطبيب يستأذنه: “لم تنجح العملية الجراحية في الحفاظ على أحد أصابعك، لذلك يتوجّب علينا بتره حفاظاً على سلامتك”. سمح حسين لهم بذلك من دون إدراك معنى هذه الخطوة. حتى بعد البتر، كان حسين رهين صدمة هول الانفجار وخسارة شقيقه.
تعلّق هنيدي على عدم إطلاق حسين العنان لمشاعره حيال فقدان جزء من جسده قائلة: “لا تختفي المشاعر بإنكارها أو تجاهلها وإنما تُؤجل، ثم تظهر مع مرور الزمن، ما ينتج عنها في أوقات كثيرة اضطرابات ما بعد الصدمة، فتظهر أعراضاً مثل الاكتئاب والقلق واضطرابات النوم والتشتت، أو سلوكيات عدوانية أو انطوائية”.
“الإعاقة المؤقتة علّمتني”
جرّبت نجمة ردّة الإعاقة لفترة وجيزة حين أصيبت في الزلزال الذي ضرب شمال سوريا في 6 شباط الماضي. في ذلك اليوم، قضت ابنة الـ 24 عاماً نحو 5 ساعات تحت أنقاض المبنى الذي تسكنه في محافظة اللاذقية، مثقلة بالحجارة والحديد. ثمّ خرجت من تحت الركام تصرخ: “أبي، لن أمشي بعد اليوم، أبي لقد ماتت رجلي”، ذلك أنّ جرحاً عميقاً شق ساقها من أعلى الفخذ وأعاق حركتها.
قضت نجمة ليالٍ صعبة في المستشفى من دون نوم، ومع كوابيس متكرّرة حول الزلزال، ولحظات أليمة تقفز إلى ذاكرتها في صحوها ونومها. تملّكها شعور عميق بالخوف والذعر، مولداً نوبات من الهلع المتكرر، مصدره إحساسها بأنّها لن تمشي مجدداً على قدميها. “فالتأقلم مع الإعاقة الطارئة كان أمراً بغاية الصعوبة في بداياته، لأنّ الصوت الرافض من الأعماق يصرّ على نكرانها، وعدم تقبّل شعور العجز والضعف المرافق لها”، كما تقول. اختلطت هذه المشاعر الرافضة لاحتمال فقدان جزء من جسدها مع فقدان طفلها البالغ سنة و3 أشهر جرّاء الزلزال، ليصبح “الألم مضاعفاً”.
تخطّت نجمة هاجس الإعاقة الذي لاحقها أشهراً عديدة مع أول خطوة مشتها بعد الحادثة. تصف شعور الإعاقة العابر لجسدها بأنّه “ثقيل مهما كان المحيط متعاطفاً وقريباً، لأنّ العجز الطارئ مهين جداً للذات، خصوصا إذا رافقته مشاعر الشفقة واستباحة الخصوصية، والإحساس بسلب الإرادة في كلّ شيء، حتى في قرار دخول المرحاض”. لذلك، علّمت هذه التجربة كلاً من نجمة وزوجها الذي رافقها خلال رحلة “الإعاقة المؤقتة” أهمية دعم الأشخاص ذوي الإعاقة نفسياً.
وتؤكد هنيدي على ضرورة توفير جلسات دعم نفسي متواصلة لذوي الإعاقات الطارئة، وليس جلسات إسعافية فحسب، مشيرة إلى “أهمية جلسات العلاج الجماعية في هذه الحالات التي تمنح شعوراً بالانتماء إلى المجموعة المساندة، عدا عن أنّه عندما يلتقي المرء بمن عاش تجربته يتراجع أثر المشاعر السلبية لاعتقاده أنّه الناجي الوحيد.”
تحرير وإعداد: غزل بيضون
تم إعداد هذه المادة بالتعاون بين منصة أخر قصة و المركز الإعلامي للأشخاص ذوي الإعاقة و منصة عكازة