في المركز حيث كوّات دفع الفواتير الخاصة ببوابات الإنترنت، وقفت هناك كعادتي أنتظر دوري مثل الكثيرين، لكن قدرتي على التركيز خانتني يومها في اختيار الصف المناسب، حيث الضجة تملأ المكان بهمسات المراجعين الذين شغلوا فراغ البهو الكبير.
هنا انتبه المسؤول خلف النافذة إلى وجودي غير المنتظم، وربما اكتشف بطريقة ما بأنني كفيف، فطلب من الجميع تقديمي إلى كوة الدفع، وعندما اقتربت منه سألني عن رقم الهاتف وبدأ بتحديد قيمة الفاتورة، ثم قال بطريقة انتشرت فيها رائحة التهكم: “عندك بوابة انترنت كمان؟ مين بيشتغل عليها أكيد أنت”.
شعرت أن الجميع تجاوبوا معه بضحكات وكأنه قال لهم نكتة، فقلت له بكل ثقة: “صحيح أنا بشتغل ع الانترنت وين المشكلة!” فرد متابعاً سخريته: “أنا قدمتك ع الجميع لأنك ما بتشوف، لسا بتقولي إنك بتشتغل ع الانترنت”.
هنا ارتفع صوتي بغضب مجاوباً: “لمعلوماتك بشتغل كمان معاون رئيس شعبة في المجمع التربوي وخريج جامعي وبدّرس طلاب، ليش شاغل نفسك فيني، أعطيني الفاتورة ومشيني!!”
عندها ازداد غلظة وقال لي: “ليش معناها ما بتوقف ع الدور متل غيرك، أنا احترمتك لأن عندك وضع وبديتك ع الجميع”، فقلت له بعد أن كانت يدي ممدودة نحوه لدفع الفاتورة: “ممنونك كتير ما عاد بدي ادفع، رح وقف بالأخير حتى ما تمّن عليّ بهذا الفضل!”
وعزمت على الانسحاب إلى الوراء لكن الحضور من المراجعين منعوني من ذلك وفعلوا بأصولهم الطيبة محاولين تلطيف الجو، غير أن المسؤول وراء النافذة بقي على حاله المتعجرفة وكأنه في فتح عمّورية!
تساءلت حينها بمرارة، هل يظن ممن هم على شاكلة هذا الشخص بأنه يُفترض بنا ك مكفوفين ألا نتعلم في الحياة شيئاً كي نبقى تابعين لمن يبصر عنا ويقرأ عنا ويقرر عنا ما نريده، أم أنه محكوم علينا الحرمان من كل مكتسبات الحياة، كي نبقى متسولين ويدخل هؤلاء الجنة بفضل إحسانهم إلينا!
إن شخصاً مثلي مقتدراً على العطاء والانجاز والتغلب على الصعاب ستكون حساسيته مرهفة تجاه متل هذه المواقف، والتي كان يمكن تجنبها ببساطة لو أن البشر خلعوا عن أنفسهم نظارة الأحكام المسبقة!
كتابة: أ. ممدوح ديبو