الله يعينها، ما في غير هالطريقة لتقدر عليه”، بهذه العبارة برّرت جارتي ما حدث قبل لحظات في الحي: أمّ تصرخ وتضرب طفلها المصاب بالتوحّد. لم يكن الصوت وحده قاسياً، بل التبرير أيضاً. والموجع أكثر أن معظم من كانوا حولي تقبّلوا المشهد، بل سعوا لتبريره بحجة أن الأم فقدت صبرها، ويئست من إيجاد طريقة للتعامل مع ابنها والسيطرة على انفعالاته.

ورغم فداحة الموقف وقسوة المشهد، حين يتحوّل شخص يُفترض أن يكون الملاذ الوحيد لابنه إلى مصدر للعنف، ظننت أن الأمر حادث عابر، أو كما يُقال هذه الأيام «حالة فردية»، لكنني تنبهت سريعاً إلى أنها ليست كذلك، فمشاهد مشابهة تتكرّر، وإن اختلفت وجوه الضحايا.

قصة أخرى كنت شاهدة عليها، لرجل متسوّل يتردّد على الحي برفقة فتاة من أطفال متلازمة داون، لم يتضح بعد إن كانت ابنته أم لا، فقد كانت في حالة يُرثى لها: ثياب متّسخة، شعر منكوش، قدَمان حافيتان، ووجه أسمر يحمل آثار ندبات. وبدلاً من أن يمنحها الرعاية والاهتمام، اختار أن «يُدمجها» في المجتمع بطريقة غريبة حدّ الدهشة، ليستعطف الناس من خلالها، ويُخضعها عمداً لأبشع الظروف المعيشية. تجلس الفتاة إلى جواره ساعات طويلة تحت الشمس، يشدّها من يدها ويجبرها على المشي، فإذا رفضت، صفعها على وجهها لتستجيب لأوامره!

يمّر الناس حوله في صمت غريب، شهود عيان لا ينطقون. والأغرب من ذلك أن بعضهم يخرج عن صمته ليبرّر قائلاً: “ما بتتجاوب معه غير هيك”. وكأن العنف بات حدثاً عادياً، وأسلوباً متّبعاً ومقبولاً في التعامل مع الأطفال ذوي الإعاقة.

المنظور النفسي لدورة العنف

تشدد الاختصاصية النفسية فيروز عمّاري على رفضها التام لاستخدام العنف مع الأطفال، سواء كان بهدف السيطرة أو كـ «وسيلة تربوية». وتوضّح أن ثمة فرقاً واضحاً بين العنف والحزم؛ فالعنف يتضمن الضرب والإيذاء الجسدي، بينما يقوم الحزم على مزيج من الحب والصرامة؛ “وهو أسلوب أكثر نجاحاً في تحقيق الاستجابة الصحيحة وتعزيز السلوك الإيجابي لدى الطفل المختلف عن أقرانه.” حسب قولها.

تستذكر الاختصاصية حالة واجهتها لطفل من ذوي الإعاقة كان والده يلجأ إلى الضرب المبرح لـ «تأديبه»، مشيرةً إلى أن هذه الطريقة لم تُثمر سوى عنفٍ أقوى وأشد، إذ أصبح الطفل يضرب إخوته وأصدقاءه، ويستخدم ألفاظاً نابية، ويتّبع سلوكيات مضطربة.

تُبيّن عمّاري أن فقدان الأطفال ذوي الإعاقة لمقوّمات الأمن والاستقرار والحب يفاقم المشكلات داخل الأسرة، ويخلّف آثاراً سلبية وآلاماً نفسية دائمة، مؤكدةً على أهمية دور الأهل في الحد من هذه الآثار من خلال المسارعة إلى طلب المشورة والانخراط في الدورات التوعوية التي تنظمها الجمعيات والمنظمات المتخصّصة بالأطفال ذوي الإعاقة.

الحب والتقبّل يصنع الفارق

تجسد تجربة السيدة ميساء جحّه مع ابنتها ريتا حنّون، البالغة من العمر 16 عاماً، نموذجاً لما يمكن أن تصنعه الأم المتفهمة والمحبّة من فارق حقيقي في حياة طفلها، تقول: “إذا لم تتقبّل الأم طفلها كما هو، فلن يتقبّله أحد!”

تعاني ريتا من إعاقة حركية وصعوبة في النطق نتيجة نقص في الأوكسجين عند الولادة. ورغم الصدمة الأولى، تقول الأم إنها اختارت الحبّ بدل الاستسلام، معتبرةً أن ابنتها “نعمة من الله، سأُحاسب على كيفيّة معاملتي لها، فهؤلاء الأطفال من أصفى القلوب وأجملها”.

تشدد الأم ميساء على أن دور الأهل جوهري في فرض احترام طفلهم على المجتمع، مضيفة: “من يريد وجودي في حياته عليه أن يتقبّل ابنتي أيضاً، وممنوع أن يجرحها أحد أو يصرخ في وجهها، فهي جزء منّي.” ورغم رفض البعض وجود ريتا في البداية، نجحت الأم في فرض احترامها بفضل إصرارها على دمجها في النشاطات والمناسبات الاجتماعية.

تحكي ميساء عن مواقف مؤلمة واجهتها، منها حين انزعج بعض الأشخاص من وجود ابنتها في الكنيسة، فتوجّهت إلى الكاهن لتسأله إن كانت تزعجه، ففاجأ الجميع بإيقاف الصلاة قائلاً: “ابنتك ملاك، وتصلي بإيمان أقوى من إيمان مَن يتحدث عنها بسوء أو يرفض وجودها”.

لم تكن رحلة ميساء سهلة؛ فقد خاضت معارك حتى داخل بيتها، بعدما أراد زوجها وضع ريتا في مدرسة داخلية، لكنها رفضت وأصرت أن تبقى معها أينما كانت. وحرصت على أن تتلقى العلاج الفيزيائي لتتجنّب العديد من العمليات الجراحية. وبعد سنوات من التدريب والمثابرة، نجحت الفتاة في المشي، والأكل، وارتداء الملابس بمفردها، فالتحقت بمدرسة متخصصة لتتابع رحلة علاجها الحسي والفيزيائي والنطقي المستمرة.

تؤمن ميساء أن العنف لا يصنع تقدّماً، وتقول: “ريتا تعبت كثيراً لتصل إلى ما هي عليه اليوم، فكيف أزيد عذابها بالضرب؟ يمكن معاقبتهم بالحرمان عند الحاجة، لكن ليس بالعنف.” مضيفة أن هؤلاء الأطفال يحتاجون إلى الحب والحنان، وإلى من يستمع إليهم ويجعلهم سعداء. ولا يجوز أن يوجّه لهم أحد كلمات جارحة، أو يهينهم، أو يضربهم.

وفي رسالتها إلى الأمهات، تختم: “أحبّوا أطفالكم، احضنوهم وشجّعوهم، وافخروا بهم وبإنجازاتهم مهما كانت صغيرة. اصطحبوهم معكم إلى كل الأماكن، وتحدثوا عنهم أينما كنتم. انصحوهم بمحبة مهما أخطأوا، واعلموا أنه لا يمكن إلغاء بعض تصرفاتهم، بل يجب على من حولهم أن يعتادوا عليها. هؤلاء الأطفال يحتاجون إلى من يمنحهم الرعاية والآمان، لأن الحبّ وحده هو ما يصنع الفارق.”

كتابة: مارينا منصور

يُنشر هذا التقرير في إطار تعاونٍ بين «صوت سوري» و«عكّازة»