أُصيب زاهر حيدر (36 عاماً) برصاصة في عموده الفقري عام 2015، أثناء مشاركته مع صفوف المعارضة المسلحة في معارك داريا بريف دمشق، ما تسبب بشلل كامل في الجزء السفلي من جسده، فيما ما تزال الرصاصة مستقرة في ظهره حتى اليوم.
منذ إصابته، لم يتلقَّ زاهر أي دعم يُذكر سوى دورة دعم نفسي استمرت أربعة أشهر قدّمها الهلال الأحمر السوري، بينما اقتصرت المساعدات الأخرى على تزويده بـ«حفاضات طبية» من بعض الجمعيات المحلية، من دون أي توضيح لحقوقه القانونية محلياً أو دولياً. وبسبب المخاطر الأمنية، امتنع عن التصريح بإصابته أو التوجه إلى دمشق لاستخراج بطاقة إعاقة رسمية من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، إذ إنه كان مطلوباً للتحقيق لدى فرع المخابرات الجوية.
ورغم أن سوريا صادقت على اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، فإن القوانين بقيت حبراً على ورق. والبطاقة الرسمية التي سعى لها زاهر، أصبحت بلا معنى أمام شوارع غير مهيأة، ومؤسسات مغلقة، وتشريعات تمييزية. هنا، تتقاطع قصص زاهر وأحمد وسواهما لتكشف أن الإعاقة في سوريا ليست في الجسد، بل في بيئة وقوانين عاجزة عن احتضانهم.
إهمال ممنهج وبيئة غير مهيأة
عقب سقوط النظام السوري، دخل زاهر إلى دمشق للمرة الأولى، ليصطدم بغياب شبه كامل لثقافة حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. يقول: «لم أسمع حتى عن القانون رقم 34 للعام 2004 الذي يُفترض أنه يُعنى بحقوقنا». ورغم شعوره بشيء من الأمان، إلا أنه واجه واقعاً قاسياً: شوارع العاصمة ودوائرها الرسمية تفتقر إلى أبسط مقومات البنية التحتية الملائمة، مثل المصاعد أو وسائل النقل العامة المهيأة.
وفي الوقت الذي تنشغل فيه النخب السياسية والقانونية في سوريا بمناقشة إصلاح التشريعات الخاصة بذوي الإعاقة، يرفض أحمد منيّة (27 عاماً)، وهو ناشط من ذوي الإعاقة، القانون القائم جملةً وتفصيلاً. يقول: «لا يوجد في سوريا قانون حقيقي للأشخاص ذوي الإعاقة، بل مجرد نهج رعائي قديم يعتمد على بطاقات تعريفية وتخصيص فرص عمل محدودة في الأكشاك. هذه ليست حقوقاً، بل صدقات!»
يضيف أحمد، الذي يرى نفسه ضحية للإهمال التشريعي: «لم أكن على اطلاع بالقانون رقم 34، فهو غير مطبق أساساً، وربما لا ينسجم مع المعايير الدولية، وما نحتاجه اليوم هو قانون شامل يغطي كافة جوانب الحياة: من الصحة والتعليم والعمل، وصولاً إلى المشاركة السياسية».
تشريعات قاصرة وقانون غير فعال
وإذا كانت المعاناة اليومية تكشف جانباً من الأزمة، فإن الخلل الأعمق يظهر في النصوص القانونية نفسها. توضح المحامية رهادة عبدوش أن الإطار القانوني في سوريا يعاني من قصور جوهري، فالدولة صادقت على «اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة» عام 2009، مع إبداء تحفظات، أبرزها على المادة 12، التي تنص على الاعتراف بالأشخاص ذوي الإعاقة على قدم المساواة مع الآخرين أمام القانون. كما أن القوانين المحلية ما زالت تحتوي على مصطلحات تمييزية مثل «المعتوه» و«السفيه»، وتفرض «وصاية قضائية» على فئة الصم والبكم.
تُشخص عبدوش الوضع بالقول: «سوريا لديها إرث تشريعي جيد من الناحية النظرية، لكن الحرب حوّلته إلى أداة لإخفاء الإخفاقات».
تضيف المحامية لمى الجمل: «الوضع الحالي يتطلب إصلاحاً شاملاً يشمل تعديل التشريعات لتصبح أكثر إلزاماً، وإنشاء آليات رقابية مستقلة، وزيادة مشاركة المنظمات المعنية بالأشخاص ذوي الإعاقة في صنع القرار، بالإضافة إلى تخصيص موازنات كافية لضمان تنفيذ الحقوق في مجالات التعليم والعمل والرعاية الصحية».
إعاقة الحرب وإعاقة الأنظمة
تُظهر تجارب العديد من السوريين أن الإعاقة لم تكن حصيلة الصراع وحده، بل أيضاً نتاج إرث طويل من التمييز والإهمال. أحمد طراد، الذي فقد ساقه اليسرى في عرسال بلبنان، واجه العقبات ذاتها حتى في بلد اللجوء. يصف تجربته في الجامعة اللبنانية قائلاً: «كانت الامتحانات في الطوابق العليا بمثابة تعذيب جسدي، لعدم وجود مصاعد».
يرى طراد نفسه ضحية لأنظمة همّشته مرتين: مرة بصفته جريح حرب، ومرة أخرى لأنه شخص ذو إعاقة. ففي لبنان، تعرّض للوصم واتُهم بالإرهاب من دون سبب، ورغم حصوله على شهادة ماجستير و30 شهادة تدريبية، قوبلت طلباته للتوظيف بالرفض تحت ذرائع مبهمة مثل: «شخص غير لائق». ويقول بحسرة: «أنا متت على إيد الدولتين .. صفر على الشمال».
من جانبه، يؤكد أحمد منيّة أن التحدي الأكبر يكمن في غياب تعريف حديث للإعاقة، الذي يقوم على النموذج الاجتماعي-البيئي لا على النظرة الطبية التقليدية التي تُقلل من قيمة الأشخاص ذوي الإعاقة. ويشرح: «الإعاقة ليست في جسدي، بل في البيئة غير المهيأة، وفي المجتمع الذي يرفض التكيّف معنا». ثم يتساءل بمرارة: «كيف أقتنع ببطاقة إعاقة بينما لا أستطيع دخول مبنى حكومي بسبب غياب المصاعد؟ وكيف أفرح بإعفاء جمركي بينما لا أجد وظيفة تناسب إعاقتي؟».
هل فاتنا القطار؟
تتجلى فجوة التطبيق في سياسات الدولة الحالية بأنها تقتصر على إجراءات رعائية محدودة لا ترقى إلى مستوى الحقوق. لذلك يطالب الناشط أحمد منيّة بإشراك الأشخاص ذوي الإعاقة في صياغة التشريعات: «لا يمكن أن يُكتب قانون يخصّنا من دون مشاركتنا. نريد أن نكون في قلب عملية صنع القرار، لا مجرد متلقّين للخدمات».
أما أحمد طراد، فيشدد على ضرورة تفعيل الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها سوريا، من خلال توفير مرافق عامة مهيأة وإتاحة مناصب قيادية للأشخاص ذوي الإعاقة، بدلاً من الاكتفاء بامتيازات رمزية مثل: «بطاقة إعاقة، تخفيض أسعار الإنترنت، رخصة كشك صغير .. لكن لا وظائف ولا مشاركة في صنع القرار».
وفي ظل عجز القانون السوري الحالي عن تلبية الاحتياجات، يطالب الناشطون بإلغاء التحفظات السوريّة على اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، خصوصاً المادة 12 المتعلقة بالمساواة أمام القانون، وإصدار تشريع جديد يقوم على النموذج الحقوقي، مع ضمانات للتنفيذ عبر آليات رقابية مستقلة، وإعادة تعريف الإعاقة بما يتجاوز المنظور الطبي ليُركز على الحواجز المجتمعية والبيئية.
ما بين رصاصة علقت في جسد زاهر، واتهامات لاحقت أحمد طراد، وصرخة أحمد منيّة «القطار فاتني وأنا واقف بمكاني»، يتجسد سؤال معلّق: هل ستنجح أي جهود إصلاحية في إدماج الأشخاص ذوي الإعاقة في المجتمع، أم سيظلون مجرد أرقاماً مهمّشة؟ إن حكايات من قابلناهم ليست سوى مرآة لنضال آلاف السوريين الذين يواجهون واقعاً قاسياً، يمكن تلخيصه بعبارة: «نحن لسنا عاجزين، بل النظام هو العاجز عن رؤيتنا بشراً يستحقون العيش الكريم».
كتابة: نور عويس
يُنشر هذا التقرير في إطار تعاونٍ بين «صوت سوري» و«عكّازة»