في عالم ينادي بالمساواة، لا يزال الأشخاص ذوو الإعاقة يواجهون تهميشاً مؤلماً حين يتعلق الأمر بأبسط حقوقهم، كالحب والزواج والإنجاب. بين نظرات الشفقة والمعتقدات الخاطئة المتجذرة، يُصوَّر هؤلاء الأفراد وكأنهم غير قادرين على الحب، أو غير مؤهلين للعلاقات العاطفية والجنسية، أو حتى عاجزين عن بناء حياة مستقلة.

تلك الأفكار المغلوطة، وإن بدت غير معلنة، تحاصرهم في دوائر من العزلة، وتغذي تصورات اجتماعية تقصيهم عن حقهم الطبيعي، وكأن ارتباطهم بشريك هو الاستثناء عن القاعدة، أو كأنهم مطالبون بإثبات إضافي لأهليتهم للحياة الزوجية. وهو ما يستدعي ضرورة تفكيك الحواجز الذهنية لدى المجتمع بما يضمن التعامل معهم كأشخاص قادرين على الحب والزواج.

«ظن أهل زوجي أنني سأنجب طفلاً معاقاً»

تحكي ماجدة عبد الحق، وهي كاتبة سوريّة وأم مصابة بشلل الأطفال، عن تجربتها مع المجتمع في ما يتعلق بالزواج وتكوين الأسرة في ظل الإعاقة الحركية التي لحقت بها نتيجة خطأ طبي. تقول: “عندما فتحت عينيّ على الدنيا وجدت نفسي لا أعرف المشي أبداً، بل أتقن الزحف أو القفز على ساق واحدة فقط. كان ذلك من جرّاء جرعة لقاح ضد شلل الأطفال حين كنت في عمر 18 شهراً، في مطلع ستينيات القرن الماضي، ما أدى إلى إصابتي بشلل نصفي. وبفضل المعالجة المبكرة والمستمرة، تركزت الإصابة لاحقاً في ساقي اليسرى فقط”.

تشرح عبد الحق أن أول جهاز طبي صُنع لها في مركز الأطراف الصناعية بدمشق شكّل نقطة تحول وانطلاقة جديدة في حياتها، مشبهةً ذلك بالولادة الثانية، إذ رافقها هذا الجهاز لما يقارب ربع قرن. وبفضله تمكنت من متابعة تحصيلها العلمي والأكاديمي، فحصلت على شهادة الماجستير في اللغة العربية وعلم النفس، ثم عملت لسنوات في مجال التعليم، ولاحقاً في المكتبة الوطنية. وعلاوة على ذلك، هي مؤلفة وأديبة صدرت لها ثلاثة كتب: إشراقات روح، العشق حياة، وقصص قصيرة.

استغنت لاحقاً عن الجهاز الطبي بعد خضوعها للعديد من العمليات الجراحية مع نهاية مرحلة دراساتها العليا، واكتفت باستخدام عكازة واحدة بدلاً منه.

تؤكد أن الجهاز الطبي أو العكاز لم يشكلا أي عائق في حياتها على مختلف الصُّعد، بفضل الدعم المستمر والمكثف الذي حظيت به من أسرتها وبيئتها المحيطة.

تتحدث عبد الحق عن زواجها، قائلة: “تزوجت بعد قصة حب واجهت خلالها العديد من الصعاب، أبرزها رفض أهل زوجي لهذا الزواج، فبرغم ثقافتهم العالية وحصولهم على شهادات عليا من جامعات خارج البلاد، كانت نظرة المجتمع السلبية أقوى في تلك المرحلة. لكن بعد فترة قصيرة من زواجنا، تعرّف والد زوجي إليّ أكثر، ودارت بيننا نقاشات حول أمور عديدة، فأصر على إقامة حفلة تعارف صغيرة في منزله لي ولعائلة زوجي، وكان شديد الفخر بي”.

حين حملت عبد الحق بابنها البكر، كانت لدى عائلة زوجها مخاوف من أنها ستنجب طفلاً معاقاً لأسباب وراثية، رغم معرفتهم بأن إعاقتها مكتسبة نتيجة خطأ طبي. ولم تهدأ تلك المخاوف حتى وضعت طفلاً معافى. اليوم، يبلغ ابنها السادسة والعشرين من عمره، وهو مساعد مهندس كهرباء ويعمل مصوراً أيضاً.

تستذكر عبد الحق تعرضها للتنمر المجتمعي منذ صغرها، إلا أن دعم أسرتها أسهم بشكل كبير في تجاوز الأثر النفسي السلبي والحزن في تلك المرحلة، ما يبرز الحاجة إلى توعية المجتمع بحقوق وقدرات ذوي الإعاقة، والأهم دعمهم لنيل حقوقهم الكاملة، بما في ذلك الزواج وتكوين أسرة.

تشير السيدة إلى أنها تعرفت إلى العديد من الحالات لأشخاص من ذوي الإعاقة نجحوا في حياتهم الدراسية والمهنية والزوجية، وأسسوا أسراً سعيدة وربوا أبناء ناجحين، خلافاً لتصورات المجتمع الذي ترفض كثير من عائلاته حتى التقدم للخطبة من عائلة بين أفرادها شخص من ذوي الإعاقة، اعتقاداً منهم بأن جميع الإعاقات وراثية وقد تنتقل إلى الأبناء.

«رفضوا تزويجي ابنتهم كي لا تصبح خادمة لشخص لديه إعاقة»

أما الشاب ياسر وردة، الذي يعمل في مجال التصميم والتصوير، فقد تقدّم لخطبة فتاة جمعته بها قصة حب، لكن أهلها رفضوا بذريعة أن ابنتهم “تستحق فرصة زواج أفضل من أن تكون خادمة في بيت شخص لديه إعاقة”. ورغم تأكيد ياسر قدرته على الاعتماد على نفسه وإدارته لجميع شؤونه اليومية، فإن التصورات الخاطئة والخوف من نظرة المجتمع وأحكامه أجهضا حلمه بالزواج من الفتاة التي أحبها وأحبّته.

يعتبر ياسر تجربته “سلبية بالكامل”، باستثناء حب الفتاة له وتقبّلها لوضعه، مؤكداً أنه حين يبحث عن شريكة حياة يحرص على وجود التفاهم والانسجام والحب والتوافق الفكري، لا مجرد تقبّل الإعاقة بدافع الشفقة.

يشير الشاب إلى العديد من حالات الزواج الناجحة لأشخاص من ذوي الإعاقة، رغم أن إعاقتهم أشد من إعاقته بكثير، ما يؤكد قدرتهم على تكوين أسر مستقرة بعيداً من التصورات المجحفة والقاصرة التي يحملها المجتمع.
يحاول ياسر اليوم تغيير النظرة السائدة التي تدفع الناس إلى إنكار حق ذوي الإعاقة في الحب والارتباط، مطالباً بترك القرار لهم لتحديد مصيرهم بأنفسهم، خاصةً في حال توافر النضج العمري، والوعي الكامل والقدرة على تحمّل المسؤولية مادياً وفيزيولوجياً.

تشرح الأستاذة في علم الاجتماع بجامعة دمشق، د. حنان ديابي، أن “من أبرز أسباب رفض المجتمع لزواج الأشخاص ذوي الإعاقة هو الخوف من العامل الوراثي واحتمال تكرار الإعاقة”. رغم أن تقديرات منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن ما بين 10% إلى 15% من حالات الإعاقة عالمياً قد تعود لأسباب وراثية، سواء كانت جينية بحتة أو ناتجة عن تداخل مع عوامل بيئية أخرى مثل التلوث البيئي، أو مستوى الرعاية الصحية الوقائية، مع تفاوت هذه النسب بين بلد وأخر.

تدعو ديابي إلى ضرورة وجود برامج توعية وحملات إعلامية تشرح الفروق بين أنواع الإعاقات، وتوضيح نسبة العامل الوراثي في كل حالة، إلى جانب أهمية إجراء الفحوصات الطبية قبل الزواج. وتؤكد أن وجود أبوين يبدوان بصحة جيدة لا يعني بالضرورة عدم إنجاب أطفال ذوي إعاقة، إذ قد يكون أحدهما حاملًا لجينات مرضية، في حين أن وجود إعاقة لدى أحد الوالدين لا يعني بالضرورة انتقالها إلى الأبناء.

يُعد الزواج والإنجاب حقاً إنسانياً يرتبط بتجربة شخصية تقوم على الحب والدعم والمسؤولية المتبادلة، بعيداً من التصورات المجتمعية المحدودة حول الإعاقة. وتُظهر التجارب الواقعية أن العديد من الأزواج من ذوي الإعاقة نجحوا في بناء علاقات مستقرة وصحية، أثبتت أن الانسجام الفكري والعاطفي يلعب دوراً محورياً يفوق الاعتبارات البدنية. برغم ذلك، لا يزال المجتمع قاصراً عن فهم هذه التفاصيل.

كتابة: راما العلاف

يُنشر هذا التقرير في إطار تعاونٍ بين «صوت سوري» و«عكّازة»