خمسة عشر عاماً مرت على إصابته بالشلل نتيجة حادث سقوط، قبل أن يجري فادي الصايغ (61 عاماً) أول مقابلة صحفية مع وسيلة إعلامية يناقش فيها قضايا الإعاقة، ومنذ ذلك الحين وهو يلحظ ضعف التغطية ونمطية أساليبها وأفكارها.

ينتقد الصايغ، وهو الناشط الحقوقي، كيف أن الإعلام اللبناني والعربي عموماً يحصر تقديم الأشخاص ذوي الإعاقة في صور نمطية قائمة على مفاهيم اجتماعية خاطئة، لا تساعد على تحقيق هدفهم بالاندماج في المجتمع وتحصيل مختلف الحقوق.

يُشكل الأشخاص ذوي الإعاقة حوالي 15 بالمئة من المجتمع اللبناني، وفقا لتقديرات. وعلى وجه الدقة، أفاد أحدث مسح أجرته إدارة الإحصاء المركزي بالتعاون مع منظمة العمل الدولية عام 2019، بأن 4.4 بالمئة من اللبنانيين لديهم إعاقة شديدة واحدة على الأقل، و12.7 بالمئة منهم لديهم إعاقة خفيفة واحدة على الأقل.

ويضاف إليهم المعوقون من اللاجئين السوريين والفلسطينيين في لبنان، مما يجعل الأرقام النهائية تبلغ 169 ألف شخص لديهم إعاقة شديدة، و488 ألف شخص لديهم إعاقة خفيفة.

غير أن الأمم المتحدة تقول إن هذه النسب قد لا تعكس تماماً الواقع الذي لا يُبلغ عنه في بعض الأحيان لاعتبارات مجتمعية، بالإضافة إلى أن الإحصاءات الرسمية في لبنان تعتمد تعريفات طبية تستثني أنواعاً معينة من الإعاقات.

تغطية نمطية

كثيراً ما كان الأشخاص ذوي الإعاقة في لبنان جزءاً فاعلاً في قضايا البلد الكبرى، فهم تظاهروا من أجل السلم الأهلي وحقوق المرأة وشاركوا في ثورة 17 تشرين، ولم يطالبوا بحقوقهم الخاصة فقط، لكن الإعلام اللبناني لم يغطِ ذلك كله، بحسب ما تخبرنا به سعدى علوه رئيسة قسم الصحافة في المفكرة القانونية.

وتضيف الصحفية التي عملت طويلاً على قضايا الفئات المهمشة في المجتمع، أنه بالمقارنة مع الماضي هناك تحسن لا يمكن انكاره في تغطية موضوعات الإعاقة، سببه توسع هامش التحركات والمقاربات الحقوقية، وإزدياد الوعي تجاه القضايا الإنسانية.

ومع ذلك لا تزال الكثير من التقارير الإعلامية تقدم قصصاً عن الإعاقة انطلاقاً من زاويتين، إما أشخاص يحتاجون المساعدة ويستحقون الشفقة، وإما أبطال خارقين يفترض الإعلام أنهم “تغلبوا على نقصهم”. وفي هذا الصدد، توضح علوه أن هذه المعالجة الإعلامية مؤذية وتسيء إلى الأشخاص المعوقين بغرض كسب تعاطف الجمهور، في حين أن تقديم قصة واقعية عنهم وإتاحة الفرصة لهم للتعبير عن أنفسهم من شأنه أن يؤثر في المجتمع تأثيراً إيجابياً، ويغير الصور النمطية تجاههم.

ينتقد الأشخاص ذوي الإعاقة في لبنان الممارسات الإعلامية بحقهم، ففي استبيان نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي بغرض إعداد هذا التحقيق، قيّم 72 بالمئة من المستجيبين أن التغطية الإعلامية حول قضايا الإعاقة هي سلبية بالكامل، وقال 73 بالمئة منهم إنهم غير راضين أبداً عن تلك التغطية.

كما رأى 51 بالمئة من المستجيبين أن الإعلام اللبناني يتحدث عن الإعاقة باعتبارها حالات تحتاج تبرعاً أو مساعدة، ورأى 39 بالمئة أن الصحفيين يبحثون فقط عن قصص نجاح لأشخاص من ذوي الإعاقة، فيما رأى 29 بالمئة أن الإعلام يقدمهم باعتبارهم حالات طبية تستدعي العلاج، بالإضافة إلى بعض التقارير التي تضيء على اختراعات جديدة تخص المعوقين في حياتهم اليومية.

تشير ميرنا باسيل، صحفية وباحثة إعلامية، إلى أن التقارير الصحفية حول الإعاقة ليست نمطيّة فحسب بل قليلة ونادرة جداً، فالأشخاص من ذوي الإعاقة غائبون عن تغطية قضايا الشأن  اللبناني الأخرى. وتضيف بأن المؤسسات الإعلامية لا تستضيفهم للتعبير عن رأيهم في الوضع الاقتصادي أو السياسي على سبيل المثال، وفي حال كانوا شهوداً على حادث ما، يتجاهلهم الصحافيون عادة ولا يعتبرونهم مصدراً موثوقاً للمعلومات.

وتوضح باسيل أن الإعلاميين أحياناً لديهم نظرة دونية أو تعاطف زائد يدفعهم لتفادي إجراء مقابلات مع أشخاص من ذوي الإعاقة، مفسرةً ذلك بأننا “نعيش في مجتمع ما يزال يخفي المعوقين ولا يتعامل معهم باعتبارهم أشخاصاً كاملين، مما يعني أن الصحافي يعالج قضاياهم انطلاقا من مقاربة فكرية للمجتمع الذي نشأ وتأثر فيه”. 

بدوره يقول طوني مخايل، مدير وحدة الرصد الإعلامي في مؤسسة مهارات: “من خلال متابعتنا لواقع الإعلام اللبناني نجد أن التغطية غالباً ما ترتبط بأحداث أو مناسبات معينة مثل اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة، بينما لا تتطرق للتحديات التي يواجهوها هؤلاء الأشخاص بشكل يومي”.

وفقا لمخايل أيضاً، العديد من التقارير الصحفية تركز على الصعوبات التي تعيشها البيئة المحيطة بالأشخاص المعوقين مثل العائلة والمدرسة والأصدقاء، وبالتالي فهي تصور الإعاقة وكأنها حمل ثقيل يتعايشون معه. ويضيف أن ذلك يعد ثغرة في التغطية الإخبارية، التي يجدر بها أن تسمع رأي الشخص المعوق وتعرض كيف أن البيئة هي التي تخلق معيقات لحياة طبيعية، موضحاً أن الغاية من التغطية هي تخفيف العوائق المجتمعية التي تواجههم، لأن ذلك من شأنه أن يخدم المجتمع بكامله.

وفي هذا الصدد، ذكر 78 بالمئة من المستجيبين للاستبيان أنهم لا يعتبرون الإعلام اللبناني دامجاً لهم، فهو لا يشركهم في قضايا المجتمع على مختلف الأصعدة، كما أن الإنتاج الإعلامي لا يأخذ بعين الاعتبار احتياجات الأشخاص من ذوي الإعاقة السمعية أو البصرية، لذلك يفضل 75 بالمئة منهم الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للمعلومات أو الأخبار.

إساءات في التغطية

على صعيد متصل، يتحدث فادي الصايغ، ناشط حقوقي في الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً، عن تجاربه السابقة في التعامل مع الإعلام، قائلاً: “أحد الصحافيين حين عرض قصتي في إحدى المجلات استخدم كلمات مسيئة لوصفي، مبرراً بأن ذلك يساعد على جذب الجمهور!”.

ويضيف الصايغ أن الصحافيين اعتادوا على تقديم قصته بصفته بطلاً خارقاً لأنه نجح في اختراع بعض الأجهزة التي تساعده على التكيف مع إعاقته، في حين أن قصته يجب أن تركز على اعتباره منتجاً وقادراً على تقديم أفكار وأجهزة لأشخاص يعيشون تحديات مشابهة له بناءً على دراسته الأكاديمية وخبراته العملية. 

ومن الأخطاء الشائعة التي قد يقع فيها مجمل الصحفيين، وفقاً للصايغ، استخدام مصطلح “ذوي الاحتياجات الخاصة” للتعبير عن الأشخاص ذوي الإعاقة، لاعتقادهم أنه الوصف الأفضل المقبول اجتماعياً. في حين أن ذلك التوصيف يشير إلى شريحة أوسع من الأفراد، وتشمل النساء الحوامل وكبار السن والمصابين بأمراض مزمنة ومن لديهم إعاقات مؤقتة، لذا فهو ليس مصطلحاً دقيقاً يميز الأشخاص المعوقين ويحفظ حقوقهم. 

ولا تقتصر الإساءات في التغطية على اختيار المفردات، إذ يمكن أن تحمل التقارير المرئية وجوهاً أكثر قدرة على الإساءة من التقارير المكتوبة، يقول الصايغ أن “استخدام موسيقى حزينة وكئيبة أو تصوير لقطات تظهر تشوهاً في أجساد الأشخاص ذوي الإعاقة من شأنه أن يعزز صوراً نمطية مسيئة وعدم احترام لكرامة وخصوصية الشخص”.

ضرورة لتدريب الصحفيين

تقتضي تغطية قضايا ذوي الإعاقة عمقاً بالمعالجة وحرصاً من الصحافي على ممارسة عدم التمييز وتقديم نقاش حقوقي، بالنسبة لعلوه، يأتي ذلك من خلال تنمية الوعي المجتمعي بحقوقهم “عبر مناهج وتربية غير نظرية تعتمد على السلوك وإدماج المعوقين بالمجتمع من خلال حضورهم الفعّال فيه”.

وتضيف علوه أنه يجب على الجامعات أن تعد طلابها في اختصاصات الإعلام على حساسية التعاطي مع قضايا المهمشين ومن ضمنهم الأشخاص ذوي الإعاقة، كما ينبغي على المؤسسات الإعلامية تدريب فريقها الإعلامي على المواثيق الإعلامية للتعامل مع تلك المجتمعات بمهنية، مما يضمن نقل الواقع الذي يعيشون فيه مع فهم السياق والظروف التي أدت إليه.

بالإضافة لذلك، عندما يقوم المعدون والمحررون باستشارة المنظمات المعنية بشؤون الإعاقة لمعرفة الكلمات الصحيحة للوصف أو الأسئلة التي ينبغي طرحها والزوايا التي يجب تناولها، وكذلك مشاركة الضيوف من ذوي الإعاقة في التخطيط للمادة الإعلامية فإن ذلك من شأنه أن يجعل التغطية أكثر عمقاً وتحسّن فهم الجمهور لواقع قضايا الإعاقة، وفقاً للصايغ.

كما أن تواجد الأشخاص ذوي الإعاقة في غرف الأخبار من شأنه أيضاً المساهمة بتغيير السردية الإعلامية المرتبطة بقضاياهم، إذ تقول باسيل: “وجودهم في أماكن اتخاذ القرار الإعلامي يعني تغير طريقة التعاطي مع الأخبار المتعلقة بهم وطريقة تقديم الموضوعات وصياغة الأخبار”. مثل تجنب ربط مصطلحات الإعاقة بالأمور السلبية أو استخدامها بطريقة مهينة أو مُسيئة، ويشمل ذلك الامتناع عن استخدام تعبيرات مثل “حكومة عاجزة ومشلولة”، “حكومة معوقة”، “حادث سير تسبب بإعاقة حركة المرور” … إلخ.

وكانت وزارة الإعلام اللبنانية قد أصدرت مدونة سلوك لتغطية قضايا الأشخاص المعوقين في مايو/أيار عام 2022، حددت المفردات المعتمدة بناء على المعايير الحقوقية العالمية وتوصيات الأشخاص ذوي الإعاقة، وسعت إلى تجاوز النظرة النمطية لقدراتهم واحتياجاتهم، ما من شأنه أن يغيّر مضمون التغطية الإعلامية ويكسر الحواجز المجتمعية ويدفع للاندماج، إلا أن ذلك بقي دون تطبيق في ظل غياب الجهات التي يجب أن تحرص على تفعيلها.

لذا يؤكد المحامي من مؤسسة مهارات على ضرورة التشبيك بين قطاع الإعلام والمؤسسات المعنية لتفعيل حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في الوصول إلى المعلومات ومواجهة التمييز، لتغيير النظرة العامة لهم في الإعلام والمجتمع.

تم إعداد هذا التحقيق لصالح مؤسسة البيرو elbiro بدعم من الاتحاد الأوروبي و DW Akademie.