وقع الاختيار على مقهى وسط العاصمة دمشق بالقرب من البرلمان السوري، ليكون مكان الاجتماع الأول لفريق عمل هذا التحقيق، يومها التقينا بشابة أنيقة ذات شعر أسود طويل ووجه ناعم، خطفت أنظار الحاضرين بجمالها وطاقتها، سرعان ما اكتشفنا أنها رشا، الفتاة الصماء التي ضجّ المكان بحركات يديها ولغة عيونها.

تنحدر رشا خازم من عائلة صماء بالكامل، لكنها نشأت في بيئة مثقفة، أطلعتها على حقيقة وجود أشخاص مختلفين عنها في الحياة. بحركات يديها وتعابير وجهها شرحت لنا، فيما تولت صديقتها فرح ترجمة كلامها: “رغم إدراكنا لوضعنا كصم وسط آلاف المتحدثين، إلا أن الحاجز فيما بيننا كان يكبر كلما كبرنا؛ سواء عند التعلم أو اللعب أو الحقوق التي يجب أن نتمتع بها، حينها قررت البحث عمن يشبهني لأكون صوتهم”.

تتابع رشا، وخلال بحثي عن الصم، قابلت الكثير ممن تعرضوا للظلم داخل جدران منازلهم، وبين عائلاتهم نفسها، وفي المقابل تابعت أشخاصاً يدّعون معرفتهم بلغة الإشارة ويعملون في الترجمة، لكن إشاراتهم كانت خاطئة تماماً.

تجارب عديدة روتها لنا الفتاتان، تثبت معظمها أن “الغلبة للقوي وليس لصاحب الحقّ” في مجتمع الصم المغلق، الذي يشبه التجمعات العشائرية؛ فيعتمد أفراده على وجهائهم أو جمعياتهم في حل مشكلاتهم بعيداً عن القانون، بسبب جهلهم به من جهة، وقلة ثقتهم بالسامعين من جهة أخرى.

فرح التل، مترجمة لغة الإشارة وشريكة رشا في مشاريعها التوعوية، تنسب الفضل في تحسين إشاراتها إلى رشا وعائلتها، فقد تعلمت منهم التفاصيل والفروقات بين لهجات الإشارة السورية المتنوعة. تضيف: “بعد أن خضعت لدورة تعلم لغة الاشارة، وانضممت إلى جمعية رعاية الصم، أدركت مبكراً الفجوة الكبيرة الموجودة بيننا كناطقين وبين الصم، فقررت الانسحاب، لكنّ الصم تواصلوا معي وصاروا يقصدون منزلي لترجمة بعض الوثائق والأوراق، وهو ما جعلني أدرك حجم المسؤولية”.

يعتقد الكثيرون أن باستطاعة الصم التواصل عبر القراءة والكتابة، لكنّ تعلم اللغة يتطلب سماعها ونطقها، ما يجعل دراسة العربية أو الإنجليزية بالنسبة للصم تحتاج إلى جهد استثنائي منهم، يشبه محاولة فهمنا للغات المندثرة من خلال رموزها وأشكال حروفها؛ لذا فالقلة القليلة منهم استطاعوا مساعدتنا في هذا التحقيق، ومنهم رشا وفرح اللتان كانتا مفتاحيه الحقيقيين.

الأخوة الأشد قرباً

قبل ثلاثين عاماً، لم يتوقع هشام (اسم مستعار، تروي رشا قصته وتترجمها فرح) أن يقوم أخوه باستغلال عدم درايته بالقانون، وإقناعه بالتواطؤ مع مترجمة لغة الإشارة، بأن الوكالة القانونية التي سوف يبصم عليها، هي مجرد إجراءات روتينية للمساعدة في دفع الفواتير. ليتبين لاحقاً أنها ‘وكالة عامة’ تسمح للأخ بالاستيلاء على الدكان الصغير، الذي كان يعتاش منه هشام وعائلته.

ويوضح بقوله: “لم أتخيل أن يقوم أخي بنقل مصدر رزقي إلى اسمه، متجاهلاً أن لي حياتي وعائلتي ومسؤولياتي، ولم أدرك ذلك إلا حين جاء المشتري لاستلام ما باعه أخي… حاولت كثيراً استرداد حقي، إلا أن ذلك كان مستحيلاً، لا سيما وأن المترجمة قالت للقاضي سابقاً بأنني موافق على الوكالة العامة”.

حتى اليوم، لم يتمكن هشام من استعادة حقه، وهو ما انعكس على حياة العائلة المكونة من خمسة أفراد صم، ويحفّز أبناءه على استكمال تعليمهم والحصول على الشهادة الثانوية، وإطلاق مشاريع ريادية خلاّقة، مكنتهم من متابعة أحلامهم، وهي إنجازات ليست سهلة على الكثير من الصم في سوريا.

أرقام غير مؤكدة

هيثم دادو، خبير لغة الإشارة وأمين سرّ جمعية رعاية الصم بدمشق سابقاً، يقول إنه لا توجد إحصائية رسمية لأعداد الصم في سوريا. لكنّ أحدث دراسة بحثية صدرت عام 2021 عن HNAP، تشير إلى أن نسبة الإعاقات السمعية بين الأطفال، تحت سن 17 عاماً، تبلغ نحو واحد في المئة، في حين تصل النسبة إلى ثمانية في المئة لمن هم فوق 17 عاماً، وتشمل كل من يعانون إعاقات سمعية جزئية أو صمماً كلياً، بما في ذلك كبار السن.

وبالمقارنة مع الأردن ولبنان، والنسبة العالمية للإعاقات السمعية البالغة خمسة بالمئة من أيّ مجتمع، بما في ذلك الصم الذين يستخدمون لغة الإشارة ونسبتهم ستة بالألف، يمكن تقدير وجود 100 ألف أصم سوري داخل سوريا، وهذا العدد لا يشمل كبار السن أو من لديهم نقص سمع جزئي. في حين أن عدد مترجمي لغة الإشارة، المعتمدين رسمياً في المحاكم والدوائر الرسمية، يبلغ نحو عشرة مترجمين محلفين فقط، وفق جداول الخبراء في المحاكم السوريّة.

يقول دادو: “قد لا تكون المشكلة في ندرة أعداد المترجمين، لأن عدد القضايا الخاصة بالصمّ التي تصل المحاكم ليس كبيراً، غير أن مهنة الترجمة للغة الإشارة خاسرة جداً، والتعويض المادي لا يغطي في كثير من الأحيان تكلفة المواصلات”.

يشير المترجمون، الذين قابلناهم، إلى أنهم كثيراً ما كانوا يقدمون خدماتهم تبرعاً من دون مقابل مادي، لكنهم يترددون حين يطلب منهم الذهاب إلى أماكن بعيدة، حينها يضطر أهل الصم إلى دفع تعويض للمترجمين لتغطية أجور التنقل والوصول إلى الجهة التي تطلب حضورهم. أما المحافظات التي لا يوجد فيها مترجمون، فقد تستعين الدوائر الحكومية بالمعلمين من مدارس الصم أو أحد الأقارب ممن يفهمون لغة الإشارة، وهو إجراء غير قانوني بطبيعة الحال، لكنّه الحل المتاح عند الضرورة.

ندرة مترجمي لغة الإشارة الذين يمكن للمحاكم الاستعانة بهم، مع ضعف التعويض المادي الذي يحصلون عليه، فتح الباب أمام عدة حالات رصدها التحقيق، تثبت حدوث تلاعب في الترجمة إما عمداً أو بسبب قلة الخبرة في بعض الأحيان، وهو ما أدى إلى فقدان الصم لحقوقهم وجعلهم يخسرون قضاياهم أو بعضاً من ممتلكاتهم.

التواطؤ مع المترجم

تروي المحامية ريتا إلياس تفاصيل إحدى المحاكمات، التي كانت تدافع فيها عن موكلتها، وهي شابة صماء تعرضت لعملية احتيال من قبل شاب أصم أيضاً، استغل علاقة عاطفية جمعته بالضحية لسرقة أموالها ومصاغها الذهبي، وأجبرها على سرقة أموال أهلها، مع وعوده لها بالزواج مقابل عدم فضحها ونشر فيديوهات خاصة بها.

وخلال جلسة المحاكمة، تواطأ مترجم لغة الإشارة مع أهل الشاب للتستر على جرائمه. تقول المحامية: “لكن بحكم خبرتي في لغة الإشارة، كون أخي شخصاً أصم، تمكنت من كشف تحريف المترجم، وأبلغت القاضي بذلك، فكسبنا القضية، وحُكم على الشاب بالسجن لمدة ثلاث سنوات، مع استرداد بعض المسروقات”.

تضيف ريتا بأن هناك ضحية أخرى قام الشاب نفسه باستغلالها، لكنها واجهت صعوبة في توكيل محامٍ ومترجم لغة إشارة، فخسرت قضيتها. مشيرة إلى أن التعامل مع الصم والنيابة عنهم ليس سهلاً؛ إذ يرفض محامون كثر هذه القضايا نظراً لصعوبتها.

في حادثة مشابهة، تروي مترجمة لغة الإشارة أناهيدا طنطا (54 عاماً)، التي عملت مدّرسة للصم في تجمع مدارس الأمل لنحو 27 عاماً، كيف تمّ استدعاؤها إلى محكمة الاستئناف، لتقديم ترجمتها في قضية تتعلق بثلاثة شبان متهمين باغتصاب فتاة صماء.

فخلال المحاكمة الأولى، قامت مترجمة لغة الإشارة بالتواطؤ مع أهالي المُدِّعى عليهم، وقالت إن الفتاة تعمل في مجال الدعارة وتقدم خدمات جنسية، وكانت تتعاون بإرادتها مع الشبان ولم يتمّ اغتصابها. وبعد صدور حكم القاضي بإدانتها وإسقاط تهمة الاغتصاب عن الشبان؛ قدّم والد الفتاة طعناً وطالب بتغيير مترجمة لغة الإشارة، فتمّ استدعاء أناهيدا لتصويب الترجمة، لتأخذ القضية منحى مختلفاً بالكامل.

يظهر اليوم اسم أناهيدا بمفرده في جداول الخبراء المعتمدين في عدلية محافظة دمشق لعام 2023/2024، في حين تتمّ الاستعانة بخدماتها أيضاً في العدليات التابعة لمحافظات ريف دمشق ودرعا والقنيطرة، وهو ما يلقي عليها أعباءً فوق طاقتها. تروي أنها في عام 2019، خضعت لعملية جراحية ولم تستطع الحضور بأحد المراكز الأمنية، في قضية شائكة رفض بقية المترجمين المشاركة فيها، ونتيجة لذلك، تمّ حجز الأصم في السجن لمدة أسبوع كامل، حتى تماثلتْ للشفاء.

اعتماد المترجمين المحلّفين

تتصدر فيديوهات فرح التل منصات التواصل الاجتماعي، وهي تقوم بترجمة بعض المفردات إلى لغة الإشارة، بعد أن أتقنت هذه المهارة على مر السنوات الماضية. وتستنكر فرح أن قسم التربية الخاصة في كلية التربية، هو الاختصاص الجامعي الوحيد الذي يُعنى بالصم ولغتهم. وعلى الرغم من أنها طالبة هناك، فإنها تجد المنهاج الدراسي بعيداً تماماً عن الواقع العملي، وغير كافٍ على الإطلاق لتأهيل الخريجين للعمل مع الصم بشكل فعال.

وتعلق على موضوع اعتماد مترجمي لغة الإشارة المحلفين في المحاكم السورية قائلة: “بإمكان أيّ شخص أن يحضر شهادة خبرة من أيّ معهد يُعلّم لغة الإشارة، ويقدم أوراقه بصرف النظر عن اختصاصه الجامعي وكفاءته في الترجمة، في حين أن بقية الدول تتبع معايير واختبارات صارمة قبل اعتماد أيّ مترجم”.

في هذا السياق، تواصلنا مع المترجم المحلّف في الأردن، مراد الصوص، الذي أكد أن إحدى أكبر التحديات التي يواجهها الصم عموماً هي نقص عدد مترجمي لغة الإشارة، بالإضافة إلى غياب لغة إشارة موحدة؛ وهو ما يدفع الصم للاعتماد على مترجمين يعرفونهم ويثقون بهم لتسيير شؤونهم الخاصة ومعاملاتهم.

يوجد في الأردن نحو مئة مترجم محلّف للغة الإشارة، مسجلين في القوائم الرسمية، حصلوا على تراخيص مزاولة المهنة من المجلس الأعلى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وهي الهيئة الرسمية المختصة في المملكة الأردنية. ويطلب من المتقدم أن يكون حاصلاً على شهادة جامعية أو ثانوية على الأقل، وأن يكمل ثلاثة مستويات من دورات لغة الإشارة، كما يجب أن يمتلك خبرة عملية في التواصل مع الأشخاص الصم لمدة سنتين على الأقل، مدعومة بشهادة توصية من إحدى الجمعيات المعنية، بحسب الصوص.

وبعد تقديم أوراقه، يتوجب عليه اجتياز امتحان مؤلف من ثلاثة مستويات نظرية وعملية، أمام لجنة مؤلفة من ثمانية أشخاص (أربعة منهم صم) يمتلكون خبرة طويلة في هذا المجال، ليتمّ تقييم سلامة وجودة إشاراته قبل اعتماده كمترجم محلّف.

أسوة بذلك، يطالب العاملون في مجال الترجمة في دمشق بوضع معايير واضحة ودقيقة لممارسة مهنتهم، وربطها بوظيفة رسمية تخضع لشروط قبول محددة ومعترف بها ضمن مؤسسات الدولة؛ بهدف ضمان جودة عملهم وتأكيد وضوح الأدوار التي يقومون بها، بالإضافة إلى تحديد تعويضات ورواتب تكفل استمراريتهم في العمل، من دون الحاجة إلى تحميل الصم وأسرهم تكاليف الترجمة خارج المحاكم وفي الدوائر الأمنية.

لا آليات للإبلاغ

جنان (37 عاماً، اسم مستعار) التي اعتادت، لوقت طويل، التعنيف وأطفالها على يد زوجها، لم تجد وسيلة للنجاة إلا الهرب من منزل الزوجية رفقة أطفالها الثلاثة، بعد أن حاول الأب الاعتداء على ابنته البكر.

تقول جنان، بمساعدة المترجمة فرح التل، إن زوجها أصمّ مثلها لكنّه مدمن كحول، حادّ الطباع، وغالباً ما كان يقوم بتعنيفها هي والأولاد باستمرار بشكل قاسٍ جداً. ولطالما حاولتْ تقديم بلاغ ضده، لكنّها لم تجد مترجم إشارة في المحافظة التي تسكن فيها، كما أن صلة القرابة التي تربط عائلتيهما أجبرتها على السكوت طويلاً تجنباً للمشاكل. تضيف: “كنت أعيش في مكان لا يوجد فيه قانون، وزوجي كان يهددني عن طريق والدتي، ويهدد كل من يحاول مساعدتي من مترجمين أو جمعيات، وكنت أخاف على الأطفال من أن تقوم الشرطة بأخذهم مني”.

في دمشق التي وصلتها مؤخراً، لم تعرف جنان كيف تشرح قصتها لعناصر الشرطة الذين عثروا عليها في إحدى الحدائق، وهم لم يفهموا ما كانت تريد قوله. بالإضافة إلى خوفها من مجتمع السامعين الذي لم تعتد أن تكون فيه أصلاً، فهي غير متعلمة ولم يُسمح لها حتى بإرسال أطفالها الصم إلى المدارس؛ وهذا ما جعلها تخشى القانون، الذي لا تعرف كيف سينصفها، وكلاهما لا يفهم الآخر!

التوعية بالقانون

تعد قضايا الميراث وحقوق الملكية والعقارات، من أبرز المشكلات القانونية التي يعانيها الصمّ. غالباً ما يكون أفراد العائلة هم الخصوم في المحكمة، ما يجعلهم عرضة للخيانة من قبل المترجم أو ضحايا الترجمة الخاطئة، وفقاً لشهادات مَن التقيناهم.

روعة، امرأة صماء عمرها 52 سنة، ترجمت حديثها فرح التلّ، لا تفوت مناسبة أو اجتماعاً للصمّ إلا وتروي معاناتها وإخوتها الصم الثلاثة من الظلم الذي تعرضوا له، بعد اتفاق والدتهم مع إخوتهم السامعين على تحريف شهادات الصم، ودفعهم للتوقيع على تنازلات قانونية يستحوذ من خلالها الإخوة السامعون على حصصهم من أملاك والدهم، الذي كان مغترباً لسنوات طويلة.

تمّ تجريد روعة من كل ما تملك، وحتى الآن ليس لديها أية وثيقة تثبت حقوقها، بسبب مصادرة والدتها لجميع المستندات. لينتهي بها الحال بأن تعمل لدى امرأة عجوز مقابل المأوى والطعام، في حين يمتلك إخوتها السامعون محلات وبيوت عديدة.

قصّة روعة باتت معروفة في أوساط الصمّ، تحاول من خلالها أن تفتح أعينهم على ما قد يجهلون، وتحذرهم من عواقب الثقة العمياء حتى بأقرب الناس. لكنّ قصتها تتقاطع مع قصص أخرى سمعناها عن تعامل الأهالي مع أبنائهم الصم، أبسطها تعمد إخفاء بناتهن وعدم الاعتراف بوجودهن حين يتقدم لهن أحدٌ للزواج، خوفاً من الكشف عن احتمال توريث إعاقة السمع للأجيال القادمة.

يروي منير سقباني، رئيس مجلس إدارة جمعية رعاية الصم بدمشق (وهو أصمّ، ترجمت أقواله فرح التلّ)، حادثة مؤسفة أثارت ضجة كبيرة بين مجتمع الصم قبل سنوات؛ تتعلق بقضية توزيع ميراث، حين قام مترجم لغة الإشارة الذي تمّت الاستعانة به من مدرسة الصم، من دون أن يكون مختصاً، بالإتفاق مع الإخوة السامعين مقابل مبلغ مالي، ليشهد أمام المحكمة بأن الأخ الأصم راضٍ عن قسمته في الميراث، وقام بتوقيع الأوراق بناء على ذلك، وهو ما لم يدركه الشاب حينها. ليكتشف الأصم الخديعة لاحقاً، ويصاب بنوبة غضب شديدة أدت إلى جلطة قلبية أودت بحياته، وهو لم يبلغ الخامسة والثلاثين.

المقارنة مع الجوار

يتقاطع وضع الصم في سوريا مع بلدان مجاورة مثل الأردن ولبنان، حيث نجد العديد من القواسم المشتركة، والكثير من الفوارق أيضاً. في لبنان، على سبيل المثال، لا توجد مهنة مترجم محلف للغة الإشارة. بدلاً من ذلك، تتمّ الاستعانة بأهالي وأقرباء الصم بعد حلفهم اليمين أمام القاضي. كما أن تعدد لهجات الإشارة، التي تصل إلى ست لهجات، يشكل عائقاً أمام خبراء الترجمة. نائلة الحارس، وهي مترجمة إشارة، تقول إنها اعتذرت عن الترجمة في إحدى المرات؛ لأن الصم كانوا يستخدمون لغة الإشارة الأرمنية التي لا تجيدها، وهو ما منعها من تقديم ترجمة دقيقة.

لكن قلة عدد المترجمين في لبنان تجعل مهنة الترجمة مربحة أكثر، ولا سيما بوجود العديد من المنظمات الإنسانية الدولية والمحلية، والطلب المستمر لخدماتهم في مختلف المجالات، ليبلغ الأجر في بعض ورش العمل إلى 300 دولار أميركي، لليوم الواحد.

أما في الأردن، فأوضاع الصم، والأشخاص المعوقين عموماً، أكثر تنظيماً لوجود هيئة رسمية تُعنى بشؤونهم، وهي المجلس الأعلى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، الذي يعمل على اقتراح السياسات العامة والقوانين والأنظمة المتعلقة بقضايا الإعاقة، وفي سبيل ذلك قام بإعداد ونشر “الدليل المهني للترجمة بلغة الإشارة”، الذي يتضمن قاموساً إشارياً موحداً للمصطلحات القانونية المتفق عليها من المترجمين والمختصين في المملكة.

الحلول المتاحة

على الرغم من أن سوريا صادقت على الاتفاقية الدولية الخاصة بذوي الإعاقة، وأصدرت القانون رقم ‘34’ لعام 2004، الخاص بالأشخاص المعوقين، بالإضافة إلى المرسوم التشريعي الجديد رقم ‘19’ لعام 2024، الذي ينظم حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة ويلزم الجهات العامة والخاصة بمسؤولياتها تجاههم؛ فإن كليهما (القانون القديم والمرسوم الجديد) يفتقران إلى بنود تفصيلية تخص الصم، باستثناء فقرة وحيدة تنص على أن “تقوم وزارة الإعلام بتخصيص نافذة تلفزيونية للصم في البرامج العامة”.

يقول الخبير القانوني عارف الشعال، إن النصوص القانونية في سوريا فقيرة جداً في هذا الخصوص، وتقتصر على المادة 118 من القانون المدني، التي تشير إلى أنه “إذا كان الشخص أصم أبكم، أو أعمى أصم، أو أعمى أبكم، وتعذر عليه بسبب ذلك التعبير عن إرادته، جاز للمحكمة أن تعين له مساعداً قضائياً يعاونه في التصرفات التي تقتضي مصلحته فيها ذلك”.

ويقترح مَن قابلناهم في هذا التحقيق حلولاً عديدة، لحماية حقوق الصم في جميع الدوائر الحكومية التي يحضرونها؛ يشمل ذلك وجود قواعد صارمة واختبارات محددة قبل منح أيّ شخص رخصة الترجمة المحلفة. بالإضافة إلى أن يكون للمحكمة ترجمانها الخاص الذي تقوم بتوظيفه لديها، أو مترجمان اثنان لكل طرف أثناء المحاكمة.

ويبقى الحل الأنجح الذي اتفق عليه الجميع، هو توفير تسجيل فيديو للترجمة أثناء المحاكمات وفي الدوائر الرسمية، الأمر الذي تتبعه العديد من الدول لضمان العدالة والشفافية، مع إمكانية الرجوع إليه في حال وجود أية مشكلة. ومع ذلك، يستبعد الخبير القانوني عارف الشعال، إمكانية تطبيق ذلك في المنظور القريب؛ لأن قانون المحاكمات لا يسمح بذلك، كما أن السجلات الرقمية غير معتمدة لحفظ الفيديوهات فيها.

ويقترح بدلاً من ذلك، تعديل القانون رقم ‘22’ لعام 2014، الخاص بترجمة المحلفين ليشمل مترجمي لغة الإشارة، ويتمّ إلحاقهم بـ “مهنة الترجمة المحلفة” بدلاً من وضع أسمائهم ضمن جداول “الخبراء الفنيين”؛ وهو ما يعني توفر شروطاً معينة للحصول على رخصة العمل. كما يقترح الشعال أيضاً إيجاد قانون خاص بالصم يراعي وضعهم ويحفظ حقوقهم، ويحقق لهم الضمانات بالحصول على محاكمة عادلة، مع عدم الاستغناء عن المترجم المحايد، والاتكاء على ضميره فقط.

ويبقى توفير التوعية القانونية بلغة الإشارة، الحل الأمثل للصم، وهو ما تسعى إلى تحقيقه مبادرة “مستشارك القانوني” التي أطلقتها نقابة المحامين في دمشق. وتهدف المبادرة إلى زيادة وعي المجتمع بالقوانين العامة، وتسليط الضوء على القضايا الأكثر إشكالية التي تواجه معظم الناس. وفي هذا السياق، أنتجت المبادرة فيديوهات توعوية بلغة الإشارة، ونشرتها عبر منصاتها المختلفة.

وزارة الشؤون الاجتماعية تستجيب

عندما عرضنا الحالات التي بين أيدينا على وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، واستعرضنا أمامها المشكلات الناتجة عن قلة أعداد المترجمين، أو عدم كفاءة من تتمّ الاستعانة بهم، وضرورة أن يخضع اختيار مترجمي لغة الإشارة لمعايير وشروط محددة تثبت كفاءتهم وأهليتهم لمزاولة هذه المهنة، أسوة بتلك المتبعة في الأردن مثلاً.

ردّت الوزارة على الفور بإرسال كتاب إلى وزارة العدل، لتزويدها بأسماء المترجمين المعتمدين في المحاكم لديها، وبناء على ذلك؛ أصدرت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل تعميماً إلى جمعيات الصمّ لتزويدها بأسماء مترجمي لغة الإشارة الموثوق فيهم، لتوجيه دعوات للراغبين منهم بأن يصبح ترجماناً محلّفاً، كما وجهّت الوزارة بتشكيل لجنة مختصة لاعتماد المقبولين من المترجمين؛ وتضم اللجنة ممثلين عن جمعيات الصمّ، وخبير لغة إشارة وترجماناً محلّفاً، وممثلين عن معاهد الصمّ في سوريا، على أن يتمّ تزويد وزارة العدل بالأسماء المختارة المتوافق عليها.

أما فيما يتعلق بقضايا الصمّ، التي شعر أصحابها بالظلم في أحكامها، ولديهم الرغبة في إعادة فتح ملفاتها أمام القضاء؛ فقد أبدى الوزير لؤي عماد الدين المنجد، وزير الشؤون الاجتماعية والعمل في الحكومة السابقة، استعداده التام للوقوف بجانب أيّ أصمّ خسر حقه ظلماً في المحكمة، ومساعدته لإعادة فتح قضيته من جديد.

الصمّ والجمعيات والتعليم

تُعدّ جمعيات الصمّ بمثابة المساحة الآمنة، التي يمكن لفاقدي السمع أن يعبروا فيها عن أنفسهم بحرية تامة، من دون خوف أو خجل. وفي كثير من الأحيان، تصبح هذه الجمعيات جزءاً لا يتجزأ من حياتهم، يمارسون فيها نشاطاتهم المفضلة، ويلتقون فيها مع أصدقائهم وزملائهم ممن يشاركونهم الهموم والمصاعب.

وتقدم جمعية رعاية الصم في دمشق دعماً محدوداً لأولئك الذين ينتمون إلى عائلات غير مقتدرة، ولا تستطيع تحمل تكاليف المحامين أو أجور المترجمين، من خلال محاولة حل نزاعاتهم ومشكلاتهم مع أسرهم أو أرباب عملهم، أو تقديم جلسات توعية قانونية بإشراف محامين وعاملين في الشأن القانوني.

في هذا السياق، يؤكد منير سقباني أن الجمعية كانت أكثر نشاطاً في السابق، لكن هذا النشاط قد تراجع في الآونة الأخيرة؛ بسبب انخفاض الدعم المالي المقدم من وزارة الشؤون الاجتماعية. وقد انعكاس هذا التراجع بشكل أكبر على حياة الصم في بقية المحافظات، حيث لا توجد جمعيات خاصة بهم أو معاهد تعليم لغة الإشارة، أو حتى مترجمون محلّفون يمكن الوصول إليهم، بل حتى القائمون على بعض الجمعيات المشتركة مع إعاقات ثانية لا يجيدون لغة الإشارة.

وتبقى المشكلة الأساسية التي حاولنا تسليط الضوء عليها بشكل غير مباشر في هذا التحقيق؛ وهي “جريمة التعليم”، كما يحب أن يسميها من التقيناهم، فكيف يمكن للصم أن يدرسوا المناهج الخاصة بالسامعين وهم في الأصل يستخدمون لغة مختلفة، ويملكون قدرات متباينة عن أقرانهم؟ فعدم تخصيص مناهج خاصة، يجعل الصم يخسرون فرصهم في الحصول على تعليم مناسب، يساعدهم على فهم ما يحصل حولهم، ويحميهم من أن يصبحوا ضحايا للاستغلال أو الظلم.

تم إنجاز هذا التحقيق بالتعاون مع شبكة أريج للصحافة الاستقصائية. وشارك في إنتاجه: نسرين علاء الدين، لودي علي، ليلى الحلبي، سناء علي، أحمد الأشقر