تدهورت الأوضاع الإنسانية للاجئين السوريين في لبنان، بالتزامن مع الحرب على غزة وجنوب لبنان. وتنَحّت المنظمات الأممية والدولية عن دعم احتياجات اللاجئين، فتقلّصت المساعدات لتصبح معدومة وغير متوفرة، فيما لا يزال اللاجئون يواجهون الانتهاكات يومياً.

يعيش ذوو الإعاقة وأهاليهم من اللاجئين السوريين حياةً أقسى من أقرانهم. ويعود ذلك للمعاناة اليومية، والاحتياجات المضاعفة التي يسعون لتلبيتها في ظروف اقتصادية واجتماعية مريرة. يكمن الهاجس الدائم لهؤلاء الأهالي في تأمين متطلبات حياة عادلة لأبنائهم وبناتهم؛ بدءاً بتوفير الغذاء والطبابة واللباس وليس انتهاءً بالبحث المستمر عن فرص التعليم والمدارس.. فيما تتحمل النساء والفتيات ضمن الأسرة العبء الأكبر من رعاية ذوي الإعاقة، بدون توزيع عادل لهذه المسؤولية، ما يكرس الدور الرعائي التقليدي للنساء في المجتمع.

تخرج غضون (18 سنة) على كرسيّها المتحرك في المخيم، رفقة أخيها الصغير وأبناء أختها سرور. فهي تعاني من نقص أكسجة في الدماغ وانعدام التوازن الحركي منذ الولادة. انتقلت وأخوها للعيش مع أختهما المتزوجة بعد وفاة أمّهم قبل عام ونصف. الأختان متقاربان في السن، كما في حجم الجسم، ما يُحمّل سرور أعباء جسدية مرهقة في نقل وتحريك غصون، التي يُثقلها الحزن الناجم عن شعورها بالذنب بسبب ما جلبته لأختها من أعباء.

تعبّر سرور لموقع #عكازة عن خشيتها من المرض فهي محرّك العائلة في غياب زوجها: “أهم شي حافظ على صحتي، عندي حمى تيفوئيد من 4 أشهر. بعامل أختي وأخي متل أولادي، وكلنا منتعاون مع بعض”. تفتخر الأسرة بتقديم كلّ ما لديها لصناعة الفرح والبسمة على وجه غصون، ويعبّر أفرادها عن استيائهم من نظرات وعبارات الإشفاق التي يُغرقهم بها المحيط الاجتماعي.

بين جحيم المخيم والتهميش

تحت وطأة الظروف القاسية حسمت أسماء (38 سنة) أمرها وفضّلت علاج ابنتها حنين (14 سنة) على تعليم ابنتها تسنيم (17 سنة). الخيارات صعبة جداً، وربّما غير موجودة. فهذا الواقع المفروض والتسليم به أمر مُحتّم. أسماء لاجئة سورية وأمّ معيلة لطفلة من ذوي الإعاقة، تعيش مع ابنتيها وأمّها المسنة المريضة في أحد مخيمات بلدة عرسال.

تعاني ابنتها من تشوّه في الدماغ وانحراف في العمود الفقري منذ الولادة؛ ما تسبب لها بضعف العضلات وعدم القدرة على الحركة والتركيز والانتباه، فضلاً عن صعوبات في النطق. اكتشفت الأم مرضها بالتزامن مع اختفاء الأب بعد أن خرج من منزله في حمص ولم يعد، ليُسجّل في عدّاد المفقودين في سوريا عام 2011.

تحاول حنين التحرك داخل الخيمة التي تقطنها العائلة، إلاّ أنّ عدم استقامة الأرض لا تسمح لها بذلك، تمشي قليلاً وتقع. تجرّب والدتها تشجيعها على الوقوف مجدداً والتحرّك خطوات بمساندة أختها تسنيم، لتحضر كلّ منهما صحنها وملعقتها. بعيون قلقة تراقب أسماء الحركة المحدودة لابنتها. تحدد هدفها لما تبقى من حياتها: أن تتجنّب التمييز بين البنتين. هكذا وجدت أسماء نفسها أمّاً وأباً، تركض بشتى الوسائل، لتأمين العلاج لابنتها.

أسرة أسماء واحدة من 32 % من الأسر السورية اللاجئة التي لديها فرد واحد على الأقل من ذوي الإعاقة بحسب إحصائيات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، والتي تُبَيّن أنّ 14% من اللاجئين السوريين يعانون من نوع واحد من الإعاقة على الأقلّ.

تروي لموقع #عكازة: “أول ما جينا لعرسال ب 2012. كان كلّ شي صعب. لاجئين، ما منعرف شي. كيف بدي أروح عالدكتور. كيف بدي آخد بنتي. شو بدي قول للدكتور. كيف بدي أمن دواها”.

وتستكمل حديثها عن التحديات التي تواجهها: “مفروض أعمل لبنتي تخطيط وفحوصات كلّ ستة أشهر بتكلف حوالي 500$، لنشوف نسبة الدواء اللازم تغييرها وتعديلها. بسرح بالشارع لحتى أأمن المبلغ المطلوب. ما في أيّ جهات عم تطلع فينا. مالنا معيل غير ربّ العالمين”.

استطاعت مواجهة جزء من الصعوبات اليومية والحياتية بفضل حضورها بعض التدريبات التي حصلت عليها من خلال مبادرات مجتمعية تعمل على تمكين النساء في البلدة. ساعدتها هذه المساحة بالاحتضان النفسي غير المباشر. على حدّ وصفها. فيما لم يكن من السهل عليها تجاوز الاستغلال المادي الذي تعرضت له، عند بحثها عن فرص للعمل لتأمين معيشة العائلة: “بدهن يشغلوكي كل النهار و ع مبلغ رمزي، في استغلال كبير. إلي 12 سنة هون، ولا مرة سمعت في فرصة عمل لأهالي ذوي احتياجات الخاصة، بتمنى يكون في هيك شي”.

مُلزِمات الإعاقة واللجوء: هاجس ما بعد الموت!

تخشى الأمهات من مستقبل مجهول سيحلّ بأبنائهن وبناتهن من ذوي الإعاقة في حال موتهنّ. فكثيراً ما يشغل بالهنّ سؤال: “مَن سيعتني به/ـا إذا غادرتُ الحياة؟”. كما تعيش هؤلاء الأمهات متلازمة الخوف من العنف أو الضرب أو التحرش أو أي اعتداء متوقع؛ فيلجأن إلى منع أولادهن ذوي الإعاقة من الذهاب خارج الخيمة أو المنزل.

يتمّلك هدى العذاب عندما تنظر إلى أولادها. المسؤولية وأعباء الدواء والمرض، وكذلك ظروف اللجوء تزيد الضغط على العائلة، تقول: “كانت الحياة مقبولة، مو متل هلأ، الإيجارات عم تزيد. الولاد عم يكبروا. صاروا شباب. بتعب لما حمّمهم، كتير بتعب”. أما زوجها فيقلق من احتمالات ترحيلهم في أي لحظة، لعدم قدرتهم على نيل إقامة قانونية في لبنان.

قَدِمَت العائلة من إحدى بلدات محافظة درعا في 2016، بعد تعرض منزلها للقصف وإصابة اثنين من أبنائها. تَسجّلوا في المفوضية بصفة طالبي لجوء، لكنّ التسجيل لم يساعدهم في الحصول على إقامة قانونية. يجلس الأب أمام باب المنزل يفرز قطعاً من الحديد والأشياء المستعملة والقديمة، بعد جمعها طوال اليوم من المحيط القريب. في محاولة لبيع هذه “الخردوات – الكتل المعدنية”.

هدى، أمّ لثلاثة أشخاص يعانون من تأخرّ ذهني وعقلي وحركي، نتيجة ضمور في الدماغ وضعف بصري شديد مع انحراف في الرؤية (علاء 27 سنة لديه ضعف 14 درجة، ملاك 20 سنة لديها ضعف 11 درجة، وآية 13 سنة لديها 9 درجات ضعف). اكتشفت العائلة الإعاقة لدى أبنائها في سنّ المشي. ترهن الأمّ وقتها وطاقتها وجسدها، وكلّ ما تملك من إرادة لخدمة أبنائها الثلاثة. يبدأ يومها باكراً وينتهي في وقت متأخر. تعاني من أمراض جسدية عديدة نتيجة ذلك.

كنوع من الدعم والتفريغ الذاتي لنفسها؛ لجأت إلى زراعة بعض الخضار المنزلية من الجرجير والنعناع والبقدونس، وقليل من الريحان وغيره في مدخل المنزل وعلى النوافذ. تعتبر هدى أنّ الجلسات التي تلقتها من جمعية مساواة في المنطقة بين عامي 2019 و2021، الفرصة الوحيدة التي حصلت عليها. استفادت مع بناتها، تعلمن الاعتناء بأنفسهنّ، تحسنَ مستوى النطق لديهنّ، فكانت جلسات دعم نفسي مميزة لهنّ.

تبلغت آية هذا العام بتوقفها عن الذهاب إلى مدرسة ‘طموح’ المتخصصة بذوي الإعاقة، حيث كانت مكفولة من اتحاد الجمعيات الإغاثية والتنموية URDA منذ 2021، وهو أسوأ خبر تلقته لها وللأسرة، فالمدرسة هي المتنفّس الوحيد والمكان الذي ساهم بتحسين وضعها بشكل كبير.

الخوف والأمل: حدود لمسؤوليات لا نهاية لها!

تتصدّر ضرورة تأمين الطبابة والعلاج والمعينات الحركية والبصرية والسمعية، قائمة الأولويات لدى أهالي ذوي الإعاقة. تساعد بعض الجمعيات المحلية في توفيرها ولكن فجوة الاحتياجات أكبر من القدرة على سدّها. تليها الحاجة إلى تأمين الدعم النفسي والتمكين للأهالي وأبنائهم، فمن شبه المستحيل وجود هذه الخدمات المتخصصة.
عند لقاء موقع #عكازة بمجموعة من هؤلاء الأهالي؛ تمنّوا جميعاً الحصول على الدعم النفسي “الذي لا تلتفت إليه أيّة جهة”، سواء للأفراد ذوي الإعاقة، أو أهاليهم. برغم نشر مفوضية شؤون اللاجئين في لبنان إشعاراً بتوافر هذه الخدمات لديها ولدى شركائها.

لكن معظم أهالي ذوي الإعاقة لا يستطيعون الخروج بأبنائهم خارج المنزل أو الخيمة، خشية التنمر والاستهزاء. تتصاعد تنهدات هدى من أعماقها وهي تقول: “حتى أهل زوجي كانوا يزيدوا علي أكتر وأكتر”. في إشارة إلى الضغط المجتمعي من أقرب أفراد العائلة، قبل أن يزداد هذا الضغط في مجتمع اللجوء: “هون ما بتجرأ أطلعهم لبرا. بيتعاملوا مع علاء بتنمر. كنت أدعم حالي بحالي. ضغط اقتصادي ونفسي والحمد لله على كل حال. كل ما كبروا زادت مسؤوليتهن”.

تستقبل الجمعيات المحلية المتخصصة بذوي الإعاقة، هذه الفئة في سن الطفولة ما دون 13 سنة، لعام واحد فقط أو فترة محدودة جداً، يعيش خلالها هؤلاء نوعاً من الأمل والتحسن من حيث الحركة والنشاط. لكن سرعان ما ينطفئى هذا النور عند انتهاء فترة الاحتضان والكفّ عن الذهاب إلى المركز أو المدرسة.

يلاحظ الأهل أنّ هذه الفترات المؤقتة تلعب دوراً مهماً في حياة أبنائهم نحو الأفضل، ويعتبرون الاحتكاك بأقران لهم في الإعاقة عاملاً مُساعداً، بينما المكوث في المنزل مع أفراد الأسرة وبين أفراد المجتمع يشعرهم بالوحدة والحزن مجدداً. بل ويتدهور وضعهم النفسي بشكل كبير، وينعكس ذلك تدهوراً لصحتهم الجسدية أيضاً.

تقول سرور “أختي من زمان كانت تروح على مركز وتتعلم، تغير جو، تقدر تستخدم الأشياء. في عيل ما بتقدر تأمن لأطفالها شي. كانت تحسّ إنها أحسن من غيرها. بس لما قعدت بالبيت وكل يلي حواليها حركتهن أحسن منها صارت نفسيتها تتعب”. بينما تتمنى أسماء وجود جهات متخصصة لرعاية ابنتها “هي بحاجة لجلسات علاج فيزيائي. عم آخدها مرة بدل المرتين بسبب تكاليف المواصلات. بحسّها عم تكبر وعم تزيد صعوبة التعامل معها”.

تعيش كلّ واحدة من الإناث المعيلات لذوي الإعاقة بمعزل عن الدعم أو مجرّد التطرّق لاحتياجاتهنّ. ويشعرن أنهنّ وحيدات ومهمشات سواء في القوانين أو الالتفات من المجتمع لتوفير أبسط احتياجاتهن. بينما يحاصرهنّ المحيط ويزيد الضغط عليهن. فيقتصر هروبهنّ من هذا الواقع المرير على تربية عصفور داخل الخيمة، أو زراعة بعض النباتات، أو زيارة لإناث مثلهنّ معيلات لذوي الإعاقة.

يرغبن بوجود مشاريع عمل تتيح لهنّ البقاء في المنزل وتوفرّ لهنّ فرصة عيش كريمة، يشعرن عبرها بقيمة اقتصادية حقيقية تلبي احتياجاتهن واحتياجات أسرهنّ، إلى جانب الدور الرعائي الذي يؤدينه. فهل ستتوقف عجلة الحياة يوماً لإدماجهنّ نحو مستقبل أفضل؟ أَم “يبقى أملاً غير مُنتظر” على حدّ تعبيرهنّ.

كتابة: مزنة الزهوري

تُنشر هذه المادة بدعم من “صوت سوري” ضمن مشروع “نساء حول الإعاقة”، بالتعاون بين منصة #عكازة وجمعية همزة وصل.