رغم الجهود المبذولة في تطوير السياسات والأدوات لتوفير “إعلام دامج” على صعيد الدول والمؤسسات، لا تزال مسألة الإعاقة في أدنى سلم أولويات وسائل الإعلام اللبنانية، لجهة التنوع وإدماج الأشخاص ذوي الإعاقة.

بل تساهم القنوات الإعلامية في معظم الأحيان بترسيخ التصورات النمطية حول الأشخاص المعوقين، من خلال تقديمهم في إطارين جامدين: إما كأشخاص يستحقون الشفقة والإحسان أو كأبطال خارقين، دون مراعاة احتياجاتهم الخاصة والمختلفة في توفير محتوى دامج يضمن وصولهم إلى الأخبار والمعلومات. والنتيجة هي تهميش قضايا الإعاقة في التغطية الإعلامية، أو تناولها بسطحية دون الغوص في عمق المشكلة أو متابعة موضوعاتها بشكل مستمر.

فبحسب الاستبيان الذي أجرته منصة عكازة في 22 تموز 2023، وشمل عينة من 58 شخصاً، أعرب 73% من المشاركين عن عدم رضاهم بالتغطية الإعلامية لقضاياهم، وأشار 78% منهم أنّ الإعلام لا يُشركهم في النقاشات العامة حول السياسات والاقتصاد والفنون وغيرها، ولا في إبداء الرأي حيال القضايا المطروحة مثل أزمات النقل والبيئة والغلاء والبطالة، بل تنحصر مشاركاتهم في مواضيع الإعاقة أو تجاربهم الشخصية.

الاتفاقية الدولية تتضمن حقوقهم

لم يتغير الأداء الإعلامي بعد مصادقة المجلس النيابي في لبنان على “الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة” عام 2022. إذ لا تزال هناك ثغرات كبيرة في تأمين الوصول إلى المعلومات بسبب المعوقات والافتقار إلى التكنولوجيا الميسرة، مثل الكتب المطبوعة بطريقة برايل، أو وجود ترجمات للغة الإشارة، أو حتى على مستوى تبسيط اللغة وتوصيف المشاهد المعروضة، وغيرها من الإجراءات الضرورية.

رغم تحذير الإتفاقية من أنه “في الحالات القصوى مثل الكوارث الطبيعية يشكل الوصول إلى المعلومات والتكنولوجيا مسألة حياة أو موت بالنسبة للأشخاص المعوقين، ذلك أن نسبة الوفيات في صفوفهم أثناء الكوارث تتراوح بين ضعفين إلى أربعة أضعاف الوفيات من غير المعوقين”. وهو ما رصدناه في تقرير سابق نشر على الموقع.

لبنان الذي صادق على الاتفاقية الدولية لم يعمل على تنفيذ توصياتها بما نصت عليه من “تعزيز المساواة والقضاء على التمييز” في المادة 5، و”احترام حرية الرأي والتعبير والحصول على المعلومات” في المادة 21، بالإضافة إلى “تأمين كافة الترتيبات التي تمكّن الأشخاص ذوي الإعاقة من العيش باستقلالية” في المادة 9. رغم تأكيد الاتفاقية بأن “تعزيز إمكانية الوصول إلى المعلومات والتكنولوجيا يشكل عنصراً مساعداً للعيش باستقلالية”، لكن جميع هذه النصوص لم تُترجم إلى واقع ملموس انعكس على حياة الأشخاص المعوقين حتى الآن.

سياسة الإعلام الدامج

انطلاقاً من الاتفاقية الدولية، وفي ظل غياب نصوص تشريعية واضحة تتعلق بحق الأشخاص ذوي الإعاقة في إعلام دامج وفي الوصول إلى المعلومات بطرق ميسرة وممكنة، أطلق الناشط في مجال الإعاقة إبراهيم عبد الله قبل أشهر قليلة “سياسة الإعلام الدامج”. وتستهدف هذه السياسة ضمان إمكانية وصول الأشخاص ذوي الإعاقة إلى محتوى ومنصات وسائل الإعلام على قدم المساواة مع الأخرين، بغض النظر عن قدراتهم الجسدية أو الحسية أو الذهنية.

وتقوم هذه السياسة على ركائز أساسية، أهمها استخدام اللغة المناسبة مثل تجنب كلمات “نحن وأنتم” وكأن الأشخاص ذوي الإعاقة يعيشون على كوكب آخر. كما توصي بمناداة الشخص ذوي الإعاقة باسمه، وليس بإعاقته، مع استخدام كلمة “شخص” قبل كلمة “ذوي إعاقة” كي لا تصبح الإعاقة سمة تميزه عن غيره. كذلك، توجيه أسئلة مباشرة إلى الشخص المعوق وليس إلى مرافقه، وتجنب قول “الأشخاص الذين يعانون من إعاقة” لأن المعاناة لا تكمن في الإعاقة وإنما في العوائق التي تعترضهم.

تشمل السياسة أيضاً شرحاً تفصيلياً لضرورة تدريب المؤسسات الإعلامية وصانعي المحتوى الإعلامي على فهم احتياجات الإعاقة وكيفية إنشاء محتوى يسهل الوصول إليه لجميع فئات المعوقين. بالإضافة إلى فتح المجال للمساءلة وتقديم ملاحظات أو شكاوى حول ذلك المحتوى، وبناء شراكات مع المجتمع المدني، لا سيما المنظمات المعنية، لضمان التقييم المنتظم وتحديث طرق التواصل التي تعتمدها وسائل الإعلام.

يقول عبد الله: “جاءت هذه السياسة نتيجة اطلاعي على السياسات الإعلامية في دول مختلفة مثل أمريكا وبريطانيا وإيرلندا وغيرها، وإجراء بحث معمق أثناء إعدادها، وهو ما جعلها تنال إشادة كبيرة من عدة مدراء لوسائل إعلام محلية ممن وصلتهم واطلعوا عليها، لكنها حتى اليوم لم تدخل مرحلة التنفيذ”.

مدونة سلوك تنسى المعوّقين

سبق تلك السياسة الدامجة، محاولة إصلاحية قادها “الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً” في أيار/مايو عام 2022، بالتعاون مع ممثلي جمعيات تعنى بالأشخاص المعوقين، حيث قدموا لوزير الإعلام زياد المكاري اقتراحاً لتطبيق “مدونة سلوك الأشخاص المعوقين ووسائل الإعلام” خلال فترة الانتخابات البرلمانية، وهو ما تم تبنيه في ذلك الوقت من قبل الوزير الذي شدد على أهمية الإلتزام بها.

تعتبر مدونة السلوك هذه هي الأولى من نوعها التي تخطو فيها وسائل الإعلام اللبنانية نحو إظهار فئة الأشخاص المعوقين وفق النموذج الاجتماعي الذي يحترم كرامتهم الإنسانية، القائم أصلاً على النموذج الحقوقي الذي يرى أن الإعاقة تكمن في المجتمع الذي يعيق وصول الشخص إلى حقوقه، لا في الشخص المعوق نفسه الذي في حال أزيلت العقبات من طريقه سيتمكن من العيش باستقلالية وكرامة.

كما شددت المدونة حينها على وسائل الإعلام بالامتناع عن نشر تصريحات السياسيين وغيرهم ممن يستخدمون مصطلحات الإعاقة للانتقاص من الخصم، والحرص على إشراك الأشخاص المعوّقين فيما يعنيهم من قضايا، والتركيز على حقوقهم السياسية في الترشح والاقتراع.

مساعي وتجارب جديدة

كل المحاولات السابقة للإصلاح الإعلامي على صعيد التغطية والمصطلحات والقضايا لم تُحدث تغييراً ملموساً في الأداء الإعلامي، فالمشكلة كما يبدو لها أبعاد أخرى. فبحسب الإعلامي غسان حنا وهو من ذوي الإعاقة البصرية فإن: “جزء كبير من المشكلة يتعلق بعقلية المجتمع بحد ذاته، كقول أحدهم لي إنّ الدولة لا تفعل شيئاً للمبصرين لتفعل لغير المبصرين، وهو تعبير في اللاوعي عن فكر تمييزي لأنه يعتبرنا مواطنين درجة ثانية، أو تعجُّب آخر من قيامنا بأمور حياتية كالذهاب إلى العمل وهو دليل على الجهل بأمر الإعاقة”.

ومن هذا المنطلق، يشير المحامي فاروق المغربي، إلى مسؤولية الهيئات الحكومية في ضمان وصول جميع شرائح المجتمع للمعلومات، إلى جانب دورها في حثّ وسائل الإعلام على تقديم نوعية معينة من البرامج في أوقات محددة تشمل التوعية بقضايا الإعاقة وكذلك برامج دامجة تراعي الاحتياجات الخاصة.

وهو ما بدأه “تلفزيون لبنان” الرسمي الشهر الماضي، حين أطلق خدمة الترجمة بلغة الإشارة لنشرة الأخبار الرئيسية، بمبادرة من وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال، زياد المكاري، وبدعم من “جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية”. حيث أكد الوزير المكاري على أن: “ما قمنا به فخر لتلفزيون لبنان ولهذه العائلة، ولا سيما أنه أتى في ظرف بالغ الصعوبة والدقة يمر به البلد. فهو حاجة ملحة لفئة كبيرة من مجتمعنا يتراوح عددها بين 12 و 13 ألفاً شخص”.

بدورها تشرح مديرة الأخبار والبرامج السياسية في التلفزيون الرسمي، دينا رمضان طبارة، أن الهدف الأساسي من هذه المباردة هو الوصول إلى شريحة معينة من الناس وهم “ذوو لغة الإشارة اللبنانية” كما تسميهم، ليكون لهم الحق في معرفة ما يحصل في البلد من أحداث بلغتهم الخاصة. ولا تستبعد طبارة إمكانية توسيع خدمة الترجمة لتشمل البرامج التلفزيونية والوسائط الأخرى، بعد أن لاقت المبادرة ترحيباً كبيراً.

وفي سياق متصل، برزت تجارب الإعلام البديل الذي سعى لتقديم إعلام دامج من خلال المنصات الإلكترونية، يشير سعد مطر من فريق “أنا هون” إلى أنهم يسعون لجعل تغطيتهم شاملة لمختلف شرائح المجتمع بمن فيهم الأشخاص ذوي الإعاقة، وذلك ضمن سياسة دامجة تحترم احتياجاتهم، يضيف: “تسعى المنصة لتوفير مساحة للتعبير عن آرائهم، وقد سبق أن خصّصت شهراً كاملاً لنشر مواد إعلامية حول قضايا الإعاقة وتجارب الأشخاص المعوقين”. بالإضافة إلى ذلك، تحرص المنصة على شمول الأشخاص ذوي الإعاقة خلال التدريبات الإعلامية التي تقدمها، وتوفير بيئة مناسبة لاحتياجاتهم لتسهيل حركتهم خلال تلك الأنشطة.

في الختام، يتطلّب الوصول إلى إعلام عادل ودامج يراعي حساسية قضايا الإعاقة، ويحفظ حقوق الأشخاص المعوقين وكرامتهم الإنسانية والاتفاقيات الدولية، يتطلب ورشة عمل كبيرة، تشارك فيها وزارة الإعلام، كليات الإعلام، والمؤسسات الإعلامية، والصحافيين أنفسهم، ومنظمات حقوقية لا سيّما التي تُعنى بمجال الإعاقة وبشؤون الإعلام، وغيرها من الأطراف المعنية، لوضع تشريعات تضمن إنتاج مواد إعلامية متوازنة تعكس التنوع البشري بكل جوانبه.

أحمد الأشقر، غزل بيضون