تتطلب قيادة السيارة اجتماع وتناغم عدة حواس، ورغم أن حاسة السمع قد تبدو ضرورية إلا أنها في الواقع ليست الأكثر أهمية بالنسبة للسائق، ففي الكثير من البلدان يمنع استعمال الزمور إلا عند الضرورة، بالمقابل يتم التأكد من سلامة الرؤية والصحة العقلية والنفسية للسائق، إلى جانب التزامه بالقواعد المرورية والتشريعات.
فما هو السبب الذي يقف عائقاً أمام منح أو تجديد رخص القيادة لذوي الإعاقة السمعية في محافظة دمشق على وجه الخصوص، بعد مرور أكثر من أربعين عاماً على السماح لهم بذلك؟
يروي الصمّ قصصهم بكثيرٍ من الحزن والغضب، بالأخص بعد حوادث الظلم التي وقعت عليهم فقط لأنهم غير قادرين على الكلام والدفاع عن حقوقهم! يشرح الرجل السبعيني محمد الشريف، والذي يحمل إجازة سوق منذ عام 1982، كيف أنهى قبل أربعة أعوام تجهيز أوراقه وفحص النظر وكل ما يلزم من إجراءات ليصطدم بقرار لجنة المرور رفض تجديد رخصته!
وبينما كان العم محمد يستعرض أمامنا تاريخ أول مرة استحوذ فيها على رخصة القيادة مظهراً الكثير من الاستغراب والدهشة، توقف مترجم الإشارة خوفاً من أن يكون قد فهم ما قاله الرجل بشكل خاطئ، لكن العم محمد أكّد بأنه دفع مبلغاً ليس زهيداً من المال حينما شعر أن هذا هو العائق، فما كان من الموظف إلّا أن أخذ منه النقود وقام بحجز رخصته وأوراقه وإخباره بأنه ممنوع من القيادة!
يُشترط على الأصم أن يسمع!
في السنوات الأخيرة يصطدم الأشخاص الصمّ الراغبون بحيازة شهادة القيادة أو تجديد رخصهم القديمة بعقبات وضعتها اللجنة الطبية التابعة لوزارة الصحة والمكلفة بفحص المتقدم في فرع المرور بدمشق، حيث تشترط هذه اللجنة، بحسب كثيرٍ من الذين قُوبلت طلباتهم بالرفض، بأن يكون الشخص قادراً على السمع من مسافة أقلها ستة أمتار حتى يتم منحه رخصة القيادة!
أمين سر جمعية رعاية الصمّ في سورية هيثم دادو، تحدث لـ “عكازة” عن لا مشروعيّة هذا السلوك وخطأه قانونياً، مؤكداً أن ما يحدث في محافظة دمشق على وجه الخصوص لا يحكمه سوى مزاجيّة اللجان. مؤكداً أنه في تاريخ الجمعية لم تُسجل أي مخالفة سير أو حادث مرور باسم أي من السائقين الصمّ، إذ من المعروف عن هذه الفئة التزامها الكبير بالقوانين.
يضيف دادو: “في عهد محافظ دمشق السابق، رفعت جمعية الصمّ اعتراضاً على ما يحدث إلى المحافظة لتقوم بدورها بمخاطبة وزارة الصحة وتصحّح مسار عمل اللجنة، وبالفعل تم تجديد مئات الرخص وقتها، لكن المشكلة عادت للظهور مجدداً بمجرد تغير المحافظّ!”.
وبحسب قانون السير والمركبات رقم 31 لعام 2004 والمعدل بالمرسوم التشريعي رقم /11/ لعام 2008، فإنه يمكن للأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة الحصول على إجازات سوق شريطة أن يجتازوا فحصاً عملياً بعد تجهيز سياراتهم بوسائل خاصة ملائمة، في حين لم يرد في القانون أي بند يجرّد ذوي الإعاقات السمعية من هذا الحق.
تهميش وحرمان من العمل!
يعمل غسان دقّوري (64 عاماً) بخاخ موبيليا، يمتلك سيارة ويحمل شهادة سوق منذ ما يقارب أربعين سنة، يقول لـ “عكازة” إنه واظب على تجديد رخصته بشكل دوري دون أي مشاكل أو عراقيل وقد كانت آخر مرة عام 2016، لكن حين احتاج إلى تجديد رخصته العام الماضي تفاجأ بشرط اللجنة بأن يكون قادراً على السمع من مسافة 6 أمتار، وهو بالطبع شرط تعجيزي حرمه من القيادة بعدها، فاضطر لبيع سيارته (السوزوكي) التي كان يستخدمها لنقل الأثاث من وإلى زبائنه.
ليس حال خالد الحوراني (56 عاماً) بأفضل من سابقه، حيث تعرّض لموقفٍ أكثر قسوة وظلماً، فحين عرض أوراقه على لجنة فحص السائقين قام رئيس اللجنة بتمزيقها أمام عينيه بعد أن أخبره بعدم اجتيازه للفحص الطبي، ولأنه لم يستطع التفاهم معه بلغة الإشارة صادر الرخصة القديمة من يد الرجل وطلب منه المغادرة، على الرغم من محاولة خالد الشرح بأنه يعمل في البناء ويمتلك سيارة سوزوكي وهو في أشد الحاجة إليها، إلا أن أحداً لم يهتم ذلك.
قد تختلف محدّدات قيادة المركبات وقوانينها من بلد إلى آخر لكن العديد من الدول تشيد بتجربة الصمّ والبكم كسائقين، وتصفهم بالفئة الأكثر التزاماً والأشد تركيزاً أثناء القيادة، وتسعى جاهدة لمنحهم فرصاً للعمل والاندماج في المجتمع، كي لا يشعروا بأنهم مهمشون أو أقل قدرة على الإنتاج من غيرهم.
لكن التبريرات التي يُواجه بها الصمّ في دمشق غير مقنعة، وبالأخص أولئك الذين يعتمدون على سياراتهم في العمل وكسب الرزق، ولكن على ما يبدو أن هذه القضية تخضع بين الحين والآخر لمزاج أرباب القرار كلّاً في موقعه، لوجود حالات عدة ممن التقيناهم، وفضلوا عدم ذكر أسمائهم حتى لا يطالهم الضرر، قد نجحوا فعلاً بتجديد رخصهم إما عن طريق أحد المعارف أو بوسيلة أخرى!
كتابة: سناء علي