تقصدنا أن نطرح السؤال على مجموعة ممن تجاوزت أعمارهم الخمسون عاماً، ليكونوا قادرين على الإحاطة بمرحلة زمنية تتجاوز الثلاثة عقود على الأقل، فكانت إجابتهم موحدة، بأنهم لم يعاصروا أو يسمعوا عن شخص لديه إعاقة أصبح وزيراً أو مديراً عاماً، أو حتى عضواً في مجلس الشعب، أو في غيرها من المناصب في سوريا. حتى أن السؤال أجبرهم، ويبدو للمرة الأولى، على التساؤل عن السبب، ضاربين أمثلة عدة عن رجال سياسة من ذوي الإعاقة تولوا مناصب مرموقة في دول أخرى.
فهل هناك عائقٌ قانوني في الأمر؟ أم أن ذوي الإعاقة أنفسهم يستصعبون الأمر فيبتعدون عنه؟ أم هي العقلية السائدة والنظرة القاصرة من المجتمع حول مقدرة هذه الشريحة على العمل في الشأن العام، والتي لا تشجع المعوقين على خوض التجربة أو تعيق وصولهم إليها لو أرادوا؟
تواصلت «عكازة» مع الدكتور في القانون طاهر كرابيج، الذي أكد عدم وجود عائق قانوني أمام تولي ذوي الإعاقة الوظائف العامة على اختلاف مستوياتها، مستشهداً بنص المادة ٣٣ /ف ٣ من الدستور السوري التي تقول بحرفيتها: (المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة)، إضافة إلى نص الفقرة ٤ من المادة ذاتها التي تقول: (تكفل الدولة مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين).
وأشار د. كرابيج إلى عدة أمثلة عن وصول أشخاص من ذوي الإعاقة، بما في ذلك المكفوفين، إلى وظائف متقدمة كعضوية الهيئة التدريسية في الجامعات، وأضاف: “حتى في القضاء يستطيع الأشخاص ذوي الإعاقة التقدم لمسابقات المعهد العالي للقضاء، ويعود لمجلس القضاء الأعلى تقدير مدى إمكانية الشخص على القيام بهذا العمل على ضوء إعاقته وطبيعتها”.
لكن وقبل إلقاء اللوم على تفصيل قانوني هنا أو عقلية مجتمع هناك، هل خاض أحد من ذوي الإعاقة هذه التجربة ولم ينجح؟ أم أنهم استسلموا لما يبدو أنه محتوم في بلادنا؟
تجارب لم تكتمل
عدد ممن التقتهم «عكازة» أكدوا أنهم لم يفكروا بخوض التجربة، بعضهم بسبب يأسه من الوصول إلى مراكز مهمة، والبعض الآخر بسبب عدم وجود تسهيلات تخص ذوي الإعاقة في الدوائر الحكومية التي يستوجب زيارتها للحصول إلى الأوراق المطلوبة. وأحدهم -فضّل عدم ذكر اسمه- أشار أن المشكلة لا تتعلق بالقوانين، بل بعقلية المجتمع وثقتهم المنقوصة بذوي الإعاقة التي تمنعهم من الاعتماد عليهم، حتى لو لم يكن نوع إعاقتهم يمنعهم من أداء الوظيفة التي يسعون إليها، مضيفاً بأن هذا أمر قديم، وليس خاصاً بالمجتمع السوري.
لكن هناك من خاض التجربة، مثل محمد رشيد حسن الذي رشح نفسه لعضوية مجلس الشعب، وتجاوز صعوبات التنقل والترشيح، وأكد لـ «عكازة» أنه لم يلمس أي اختلاف في المعاملة عند تقديم طلب الترشح، وأن اللجنة المعنية تسلمت أوراقه من دون وضع أي عوائق ولم يتعرض لأي تعطيل، وتم قبول ترشحه لأنه استكمل الأوراق المطلوبة واستوفى كافة الشروط.
أضاف: “لا أنكر أن توجهي الأساسي كان أن أصبح صوت الأشخاص ذوي الإعاقة، لكن علينا ألا ننسى أن الكثير من قضايا هذه الشريحة تتقاطع مع قضايا بقية أفراد المجتمع، وبالتالي حين يتم طرح قضية الإعاقة لمعالجتها، فإن الفائدة ستكون للجميع”.
إيناس حورية خاضت أيضاً الانتخابات النيابية عام 2020، ورغم أنها لم تحصل على الأصوات المطلوبة للفوز بالترشح لكنها وصفت التجربة بأنها كانت بمثابة مغامرة وخطوة جديدة وجريئة، مؤكدة أنها لا تندم عليها مطلقاً لأنها اكتسبت فيها دعم الكثير من الأشخاص، خاصة أن هدف الترشح كان إثبات رغبة ذوي الإعاقة بالسعي للاندماج بالمجتمع بكل فعالياته ونشاطاته، بالرغم من تعرضها للتنمر أحياناً لكونها امرأة أولاً ولأنها من ذوي الإعاقة ثانياً.
تقول إيناس: “ما دفعني للترشح هو رغبتي بتمثيل فئة الأشخاص ذوي الإعاقة في مجلس الشعب، انطلاقاً من حاجتنا إلى وجود شخص يشعر بنا ويحمل على عاتقه همومنا ومشاكلنا في المجلس ويشارك بسنّ القوانين وتعديلها بما يصب في مصلحتنا”.
دعم المجتمع المدني
وعن دور المجتمع المدني ومؤسساته في تشجيع ذوي الإعاقة على خوض غمار الشأن العام، تواصلنا مع حركة البناء الوطني التي تبدي من خلال أنشطتها اهتماماً كبيراً بمواضيع الإدارة المحلية وأهميتها في النهوض بالبلد، حيث أشار رئيسها أنس جودة إلى أن الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والتي وقعت عليها سوريا عام 2007، تكفل الحقوق السياسية لذوي الإعاقة وتتعهد بضمان مشاركتهم بصورة فعّالة وكاملة في الحياة السياسية والعامة على قدم المساواة مع الآخرين.
وأضاف: “لكن لا يكفي القول بأن التشريعات السورية لا تعيق مشاركتهم في الحياة السياسية، بل لا بد من اتخاذ تدابير إيجابية تكفل ذلك، بدءاً من التجهيزات اللوجستية وصولاً للعمل على تهيئة الرأي العام وتوعيته ليكون داعماً لهذه المشاركة، وكذلك دعم منظمات المجتمع المدني التي تدافع عن هذه الحقوق وتناصر من أجلها، إذ يُعتبر عدم القيام بهذه التدابير بحد ذاتها انتهاكاً للاتفاقية”.
وفي هذا السياق، يؤكد مصدر في مجلس الشعب السوري أنه ومنذ عقود لم يشاهد أحداً من ذوي الإعاقة وصل إلى عضوية المجلس، باستثناء عدد قليل من جرحى الحرب السورية مؤخراً، مضيفاً أنه لا يوجد تجهيزات لوجستية تتيح لهم الدخول إلى مبنى المجلس ومدرجاته الذي تم بناؤها في خمسينيات القرن الماضي.
وللمفارقة أيضاً فإن المجلس المركزي لشؤون المعوقين والذي يتولى رسم السياسات العامة لذوي الإعاقة، ووضع الخطط والبرامج ومتابعتها واقتراح التشريعات ذات الصلة بالتعاون مع الجهات المعنية، وكذلك التعاون مع المنظمات العربية والإقليمية والدولية ذات الصلة، يتألف من عشرين عضواً من ثماني وزارات مختلفة، ثلاثة منهم فقط هم من ذوي الإعاقة و”يسميهم الوزير”!
كاتبة: فراس محمد