عند سماعك لقصة شخص تم رفضه من العمل لأن الشركة اعتبرته مسيئاً لسمعتها، قد يساورك الفضول لمعرفة الأسباب وراء ذلك، لتكتشف أن المتحدث هو مالك سليمان، شاب لطيف حاصل على شهادة في علم النفس، خضع لعدة تدريبات في مجال المبيعات وغيرها، لكن إعاقته البصرية حالت دون قبوله في الوظيفة بحجة ”صعوبة التعامل مع الزبائن“!
ليس مالك وحده من يعاني في إيجاد وظيفة في سوق العمل في سوريا، فقد خلصت دراسة قام بها برنامج تقييم الاحتياجات الإنسانية (HNAP) عام 2021، إلى أن ثلث الذكور و14% من الإناث ذوي/ات الإعاقة ليس لديهم مصدر دخل ولا عمل ثابت، في حين أن 11% فقط من الأسر التي لدى أحد أفرادها إعاقة ما استطاعت الوصول إلى الاكتفاء والأمان المالي.
“أحاول إخفاء طرفي الصناعي”
في قصة مشابهة، يروي رامي مبارك تجربته بالعمل في إحدى المؤسسات الحكومية، قائلاً: ”أحاول بشكل دائم إخفاء الطرف السفلي الصناعي، وأجبر نفسي على المشي رغم إعاقتي الحركية. كل هذا لأن الكثير من زملائي لا يتقبلوني بينهم“.
وأضاف الشاب الحاصل على شهادة من المعهد البيطري: ”أغلب المدراء المباشرين لم يكونوا على دراية بالقوانين التي تسمح بمراعاة وضعي الصحي، أو وضع ذوي الإعاقة من حيث الإجازات المرضية وتقليل عدد ساعات الدوام“.
ويلقي رامي باللوم على الجهات المسؤولة ووسائل الإعلام، لما وصفه بـ ”التقصير في التوعية بحقوق واحتياجات الشخص ذوي الإعاقة في سوق العمل“، مؤكداً أنه حاول المطالبة بحقوقه مرات عديدة، لكنه توقف عن ذلك بسبب تعرضه للكثير من الانتقادات والتنكّر لحقوقه.
رغم أن اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والتي وقعت عليها سوريا عام 2007، شددت على ”حماية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في ظروف عمل عادلة وملائمة، على قدم المساواة مع الآخرين، بما في ذلك تكافؤ الفرص وتقاضي أجر متساو، وظروف العمل المأمونة والصحية، بما في ذلك الحماية من التحرش، والانصاف من المظالم“.
بيئة عمل متعاونة
تختلف تجربة محمد رشيد المصاب بشلل في أطرافه السفلية، عند تقدمه لوظيفه في القطاع غير الحكومي، إذ يتحدث عن معايير توظيف متساوية مع بقية المتقدمين، وخضوعه لكافة الاختبارات التقنية والمقابلات، لينجح لاحقاً بالعمل كمدخل بيانات للعيادات المتنقلة في منظمة الهلال الأحمر السوري.
وشرح لنا: ”لم يتم النظر إلى إعاقتي على أنها عامل أساسي لقبولي أو رفضي في العمل، كما لم يكن هناك أي تخوف من توظيفي داخل المؤسسة (…) ولم أواجه أي صعوبة في التعامل مع الإدارة أو الموظفين، على عكس ما واجهته في العمل بالوظائف الحكومية، التي لم تعتمد معايير توظيف دقيقة“.
وأشار محمد إلى أن الكثير من الوظائف التي تُقدم للأشخاص ذوي الإعاقة في سوريا، لا تتعلق بمهاراتهم، إنما تكون في وظائف لا تتطلب الحركة، مثل عامل في المقسم والأرشيف أو ضارب على آلة كاتبة، متناسين كل المؤهلات العلمية والخبرات التي يتمتع بها المتقدم للوظيفة.
شح بالقوانين.. وحجج غير مقنعة
ورغم ارتفاع نسب الإعاقة في سوريا، التي قدرتها الأمم المتحدة بحوالي 28 بالمئة من السكان، أي ضعف المعدل العالمي، لا يزال قانون العاملين الأساسي رقم 50 لعام 2004، يسمح للجهات العامة توظيف ذوي الإعاقة المؤهلين بنسبة لا تتجاوز 4 بالمئة فقط.
وحول ذلك اعتبر المحامي رامي الخيّر في تصريح لمعد التقرير، أن القوانين التي تنظّم التعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة شحيحة وتحتاج إلى تعديل، مشيراً إلى وجود إمكانيات كبيرة يمكن استثمارها واستيعابها في ميدان العمل.
وأشار الخيّر إلى أن الادعاء بعدم توفر الإمكانيات لاستيعاب ذوي الإعاقة هي ”حجج غير مقنعة، إذ يوجد الكثير من المراكز التي يمكن استغلالها لتوظيف أصحاب الإعاقات“.
“لا تمييز.. ولكن!”
حدثنا مدير إحدى شركات حجوزات تذاكر الطيران في دمشق (فضّل عدم ذكر اسمه)، أنه لا يجد أي مشكلة في تشغيل بعض ذوي الإعاقة الحركية، طالما كان الشخص مؤهلاً فعلاً للعمل.
ويرى أن مهام الشركة ليست ميدانية ولا تحتاج لامتلاك مهارات بدنية كبيرة، بل يكفي أن يكون الشخص قادراً على العمل على الحاسب والتعامل بلباقة مع المواطنين، منوّها إلى عدم وجود أي تمييز بين الموظفين، ومنها الأجور التي يتقاضونها.
بالمقابل، لا يخفي المدير عدم إمكانية شركته توظيف أشخاص من ذوي الإعاقة السمعية أو البصرية، معتبراً أنهم سيواجهون صعوبات في التعامل والتواصل مع الزبائن، وفق الشروط التي تطلبها المهنة، حسب تعبيره.
وينص القانون 34 الذي يحمل اسم ”قانون المعوقين“، الذي أقره مجلس الشعب في سوريا سنة 2004، على استفادة صاحب العمل في القطاع الخاص من حسم على ضريبة الدخل، في حال قام بتوظيف أشخاص معوقين وفق اشتراطات موضحة في النص.
ومع ذلك، يشير مصطفى ز. وهو مدير أحد مزودي خدمات الإنترنت في دمشق إلى أن ”ضغط العمل يتطلب انتقاء موظفين قادرين على الالتزام التام بالعمل دون أي تقصير، وهذا لا أستطيع ضمانه مع الأشخاص ذوي الإعاقة الذين قد تفرض عليهم ظروفهم الغياب أو المتابعة الطبية في أوقات الدوام“.
واعتبر مصطفى بأن رغبة صاحب العمل هو زيادة الإيرادات والنهوض باسم الشركة من خلال النشاط المستمر، لذا فإن تشغيل ذوي الإعاقة قد يشكّل عائقاً أمام تلك الرغبة، لافتاً إلى أنه لم يسبق وتقدم للعمل بشركته أحدٌ من هذه الفئة.
وتشير اتفاقية الأمم المتحدة ”بأن التمييز ضد أي شخص على أساس الإعاقة يمثل انتهاكا للكرامة والقيمة المتأصلة للفرد“، مشددة على ”مكافحة القوالب النمطية وأشكال التحيز والممارسات الضارة المتعلقة بالأشخاص ذوي الإعاقة“.
الحل في التأهيل
أكد الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور زكوان قريط، في تصريح لمعد التقرير، ضرورة إجراء دورات تدريب وتأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة، لبدء مشاريعهم الخاصة، من قبل هيئة تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، عبر وضع خطة ضمن برامجها لاستقطابهم بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني.
وأكد د. قريط على ضرورة دمج الأشخاص ذوي الإعاقة في المجتمع وسوق العمل والإيمان بأنهم شريحة فاعلة ومنتجة، مشيراً إلى ضرورة إجراء إحصائية دقيقة عن أعدادهم وتوجهاتهم العملية، بالتعاون بين وزارتي الشؤون الاجتماعية والعمل والتنمية الإدارية.
ويرى الاقتصادي السوري، أن رفع نسبة توظيف الأشخاص ذوي الإعاقة في القطاع العام إلى 10 بالمئة، تعتبر نسبة مقبولة.
بالوقت ذاته، فمن وجهة نظر د. قريط: ”لا يمكن تعميم هذه النسبة على القطاع الخاص، فهناك صعوبة بإلزامهم بتوظيف ذوي الإعاقة، خاصة مع تقليص عام للعمالة في المؤسسات، في ظل الوضع الاقتصادي الحالي وفترة الانكماش والركود التي يضطر فيها صاحب العمل إلى تخفيف النفقات“.
على الرغم من أن واقع العمل قد يشكل صدمة سلبية للكثير من الأشخاص ذوي الإعاقة ، إلا أن البعض اعتبروه نقطة انطلاقة. حيث قرر مالك بعد تجربته السيئة مع الشركات أن يؤسس فريق معني بتدريب المكفوفين وضعاف البصر على العمل عبر الإنترنت، انطلاقاً من فكرة أنهم لا يملكون القدرة على تغيير رغبات وأفكار أصحاب العمل.
ولفت الشاب إلى أن فريقهم أجرى تدريبات لنحو 100 شخص على مهارات العمل الحر، كالمونتاج والبرمجة والتعليق الصوتي وصناعة المحتوى، معتبراً أن ”الوجود خلف الشاشات ليس خيارهم الأفضل وإنما هو الخيار المتاح بالنسبة لهم، والذي يمكنهم من المنافسة في سوق العمل بعد تحييد عامل الإعاقة“، على حد تعبيره.
كتابة: جلنار العلي | بالتعاون مع راديو روزنة