وصلت شام الشابة الصماء، إلى مقهى الروضة الشهير في دمشق، برفقة فرح مترجمة لغة الإشارة، كان هدفنا إنجاز تقرير عن واقع الحياة اليومية للأشخاص الصم. وخلال الحديث فهمت منهما أن التعليم الرديء الذي يتلقاه الصم كان سبباً في خسارة والد شام لدكانه الصغير الذي يعتاش منه؛
حين قام عمها السامع بإقناع أخيه بعد الاتفاق مع مترجم لغة إشارة، بأن الوكالة القانونية التي سيبصم عليها هي مجرد إجراءات روتينية للمساعدة بدفع الفواتير، ليتبين لاحقاً أنها تنازل عن الأملاك!
لم يتمكن والد شام من استعادة حقه إلى اليوم، ما انعكس على حياة العائلة المكونة من خمسة أفراد صم، ويدفع شام وإخوتها إلى الاجتهاد لاستكمال تعليمهم والحصول على الشهادة الثانوية، وهو إنجازٌ ليس سهلاً على الكثير من الصم في سوريا.
أعادني الحديث إلى قصة سمعتها عن فتاة صماء كانت حبيسة عائلتها ولا يُسمح لها بالخروج إلا برفقة جدتها. وفي إحدى المرات وبمحض الصدفة تواجدت مع شابة سامعة تتلقى تدريباً على لغة الإشارة، وخلال الحديث أخبرتها الفتاة الصماء بأنها تتعرض للتحرش الجنسي من أحد أقربائها، وأنها لا تعرف كيف توقف ذلك، وعندما قامت المتطوعة بالاستفسار عن الموضوع من الجدة، كان ذلك هو اللقاء الأخيرة بينهما.
“إنه مجتمع ضيق جداً يشبه العشيرة في تركيبته”، تقول فرح وتضيف بأن ما يحكم هذا المجتمع هو الخوف من الفضيحة، لذلك من النادر أن تنتقل القصص الخاصة بالصم إلى مجتمع السامعين، وهو ما يجعلنا نتسائل هل لا تزال تلك الفتاة تعاني بصمت أبكم.
يروي لي أحد الأصدقاء قصة أخته الصماء التي قادها حظها العاثر إلى التواجد ضمن مظاهرة في منطقة الميدان قبل حوالي 10 سنوات، حيث لم تستطع بسبب إعاقتها السمعية الهرب من رجال الأمن ولا الاحتماء في أحد مداخل البنايات كما اعتاد المتظاهرون أن يفعلوا، مما أدى في النهاية إلى اعتقالها؛
وبسبب غياب صفة “الصماء” عن بطاقتها الشخصية جاهدت وأطلقت كل الإشارات الممكنة بيديها حتى تقنع عناصر الأمن بأنها لا تستطيع الكلام، ليتم إطلاق سراحها بعد عناء لا يوصف.
يقول الأخ المشغول بقضايا الصم: “بقيت أختي حبيسة المنزل بسبب الألم النفسي الذي ذاقته، حيث اختارت غرفتها كزنزانة مريحة”، إلا أن حالتها ساءت بعد اقتحام المنطقة واضطرار عائلتها للهرب إلى مكان آخر، فهي لم تكن تفهم ما الذي يحدث حولها.
تشير فرح بأنه لا يوجد مسمى وظيفي في الدوائر الرسمية يحمل صفة “مترجم لغة إشارة” بل هو مجرد لقب مُدرج في جدول الخبراء، ويبلغ عدد الذين يمارسون مهنة “الترجمة المحلّفة” في محاكم ومؤسسات دمشق سبعة أشخاص فقط.
وفي أحد الأيام دُعيت فرح، كونها واحدة من هؤلاء المترجمين، إلى المحكمة لتقوم بالترجمة في قضية كان أحد أطرافها من الصم، وفي ذات الوقت تواصل معها أحد المخافر وطلب منها الحضور لتسجيل إفادة شخص أصم موقوف عندهم.
وهنا كان عليها اتخاذ القرار لمن تعطي الأولوية في ذلك الوقت الضيق، فاضطرت لاختيار قضية المحكمة مما حتّم على المخفر تأجيل النظر في وضع الموقوف وبالتالي تمديد فترة احتجازه إلى اليوم التالي!
ليس نقص التعليم ولا ندرة مترجمي لغة الإشارة هما مشاكل الصم الوحيدة هناك الخذلان أيضاً، تروي وعد وهي فتاة صماء من عائلة مكونة مع أربع فتيات صم وأخ سامع، كيف عمل الأخير بالاتفاق مع المحامي لإقناع الفتيات بالتوقيع على تنازل عن حصتهم في بيت الأب، واهماً إياهن بأنها ورقة قانونية لاستكمال إجراءات تتعلق بعمل يقوم به. لم تلمس وعد ولا شقيقاتها أثر ذلك إلا عند وفاة الأب وظهور نوايا الأخ الحقيقية التي تسببت بضياع حقهن إلى الأبد.
بالعودة إلى المقهى وبعد أحاديث واسعة عن مجتمع الصم دارت بيننا وبين شام، تلك الفتاة الجميلة ذات الشعر الطويل الذي يخطف الأنظار بانسداله، رسمت لها قلباً بيدي فبادلتني بإشارات لم ألتقط منها سوى ودها ولطفها. أنهينا اللقاء ومضت الشابتان مثل الشخص وظله، ابتلعهما مدخل المقهى في الوقت الذي كنت أراجع فيه شكواي المستمرة من الوحدة.
كتابة: ليلى حلبي