لولا قطعة السياج المعدنية التي وجدت صدفة لتعينني على الحركة، لم أكن سأصل إلى مقهاي المفضل في دمشق “قهوة الروضة”، والذي يتألف من ثلاثة أقسام: قسم داخلي مستحدث، وآخر خارجي يطل على الشارع، ويفصل بينهما فسحة كبيرة تحوي نافورة مياه أو كما نسميها “البحرة”.
القسم الداخلي يعلو عن الفسحة بمقدار درجة واحدة، ويحطيه سياج معدني أستند عليه عادة للصعود والنزول، أسميه “درابزين الصدفة”. فهو كما أظن وليد الصدفة وليس درايةً أو تفهماً من أصحاب المقهى ومستثمريه لمساعدة أشخاص مثلي على التنقل، لكنه نعمة تتيح لي ولغيري من أصحاب الرجل الواحدة والعكازين الوصول إلى قهوة الروضة والاستمتاع بأراجيلها.
إلتقيت هناك مؤخراً بكاتبٍ يجري بحثاً عن الإعاقة وقضاياها، لضيق الوقت لم أُحضّر الكثير من الأفكار قبل الذهاب، ربما لثقتي بأن هذا الوطن المعطاء “المرحب بالجميع” لن يبخل عليَّ بالأمثلة العملية المباشرة، ومن رأى ليس كمن سمع..
انتظرته في قسم المقهى الداخلي الذي أفضله أنا وعكازتي، وحين وصل بدأنا بالتعارف والأسئلة، وعيني ترصد المثال كي يحدث. وأثناء حواري مع ضيفي عن الحقوق المهمة والحقوق الأهم وتلك التي لن نساوم عليها، دخل المقهى مجموعة أشخاص أرادوا طاولة كبيرة، فجمعوا لهم طاولتان عند درابزين الصدفة.
خذ ما جرى للتو كمثال يا صديقي الكاتب، إن قلت لهم: من دون قصد منكم لقد سددتم مدخلي السهل وصرت بحاجة إلى مساعدة للنزول، كيف سُيفهم كلامي؟ استعطاف؟ فرصة لجلب الانتباه؟ ألست في نظرهم بطلٌ من أصحاب الهمم؟ “ورجيني الهمم يلي بدها تنزلني”!
والآن بعد أن شربت كأسي ماء كبيرين وزجاجة كولا، “وضربت نفس أرجيلة تفاحتين”، صار لزاماً عليَّ أن أفكر بالدخول إلى المرحاض الذي يحتاج مني التفافاً حول هذه الطاولات ثم تلك الشجرات، ومع هذين العكازين قد أحطم كل الأراجيل المرصوفة بين الكراسي إذا انزلقت عكازي لا سمح الله، وهو احتمال وارد فسماء الخير قد أمطرت صباحاً بضع قطرات والأرضية لا تزال رطبة.. نعم نحن أصحاب العكازات نراقب هذه الأمور!
إذاً لا مزيد من الماء حتى تنتهي جلستنا هذه، ولا كولا، ولا أرجيلة!
لكن إذا سكتت كيف سأنزل؟ هل أطلب المساعدة من أحد العاملين في المقهى؟ ولنفترض أنه قادر بالرغم من أنه غير مدرب على ذلك، لماذا هو مضطر لمساعدتي أنا ذو الرجل الواحدة الدائخ من فرط تدخين الأرجيلة؟ ثم متى كانت آخر مرة طلبت فيها المساعدة من أحد الحاضرين ممن أجده يستطيع حملي؟ لماذا لا يوجد في المقهى كلّه مدخلاً ببلاط غير زلق يناسب رجلاً مثلي بعكازين؟
طرحت كل تلك التساؤلات على ضيفي، مع أمثلة عديدة عن صعوبات الحياة مع الإعاقة في بلد غير مجهز، تحدثت عن مشاكل تعليم المعوقين، غياب ورق برايل الخاص بالمكفوفين، نقص المترجمين للغة الإشارة، ندرة الحصول على فرصة عمل، التحرش بالإناث ذوات الإعاقة، المصطلحات الصحيحة والخاطئة … إلخ.
فرح الكاتب بعد أن امتألت أوراقه بكل تلك الأمثلة، ثم حمل أغراضه ومضى وتركني لسؤالي الحقيقي: الآن فعلاً كيف سأنزل عن هذه الدرجة الزلقة ودرابزين الصدفة ليس في متناولي؟
كتابة: علي اكريم