على مدى العصور لم يبخل التاريخ بقصصه عن ذوي الإعاقة، فهذا التاريخ الذي يُعتبر حصيلة تجاربنا كبشر نجح في كثير من الأحيان بإيصال العبرة، لكنه غفل مراراً عن مراعاة حقوقنا كأشخاص من ذوي الإعاقة، حتى بات مفهوم الإعاقة في بعض الثقافات تجسيداً لغضب الله أو بمثابة امتحانٍ منه للصبر.
قصص مثل “أحدب نوتردام” وفيلم “سبارتاكوس” وغيرها من منتجات الثقافة البشرية، استخدمت الإعاقة لفرض وجهة نظرها، وهو ما يُعتبر أمراً جيّداً إلى حدٍ ما، استفادت منه عمليات الدمج لاحقاً.
لكن ليست كل المنتجات الإعلامية حول الإعاقة إيجابية بالضرورة، الفرق أنه في السابق كان التوثيق التاريخي يتم على يد مختصين، أما اليوم فيمكن لأي شخص يملك كاميرا ويهوى الشهرة أن يستغل غياب أية قوانين تضمن معاقبته ليبدأ رحلة تجارته بالإعاقة!
تلك الرحلة التي تنطلق لجمع مليون مشترك أو مليون دعاء، بعد أن أصبح ذوو الإعاقة مستهدفين من الكاميرات التي تطاردهم لتتسول تجاربهم على أساس المقاربة الخيرية الخاطئة.
وصفة مضمونة للنجاح!
إذا كنت صانع محتوى وتعجر عن الوصول للمليون متابع، ما عليك سوى الذهاب إلى الشارع وإحضار شخصٍ من ذوي الإعاقة بعد أن تدفع له قليلاً من المال ليساعدك في التمثيل، ثم تطلب منه لعب دور المغدور أو المتروك والمهزوم، مقابل تصوير بطل آخر ضمن الفيديو وكأنه النبي المخلص من كل شر.
وعلى اعتبار أننا جميعاً نعرف واقع ذوي الإعاقة في سوريا وغيرها من البلاد؛ كونهم من أشد الفئات فقراً وأقلها فرصاً للحصول على الخدمات، فكل ما عليك القيام به هو إعادة تمثيل الواقع على أساس أنه “تجربة اجتماعية” لتضمن بذلك اللايك المليوني!
ولا تنسى بالطبع استخدام المؤثرات الموسيقية الحزينة ضمن الفيديو بعد كل كلمة “الله يشفيه” أو جملة “إن الله يحب الصابرين”، مع تصوير دموع الناس المجتمعة في الشارع، فكل دمعة تساوي “لايك” أو “مشاركة” على صفحات السوشال ميديا.
البكاء علينا في الشوارع
الأمثلة على هذا النوع من الفيديوهات كثيرة، منها قيام أحد الأشخاص بوضع أخيه المقعد في الشارع ليجلس مع صديقته في الكافتيريا، طالباً منه البقاء هناك فترة طويلة، ثم بعد ذلك يخرج صانع المحتوى هذا وهو مليء بالطاقة، وهرمون الذكورة التستوستيرون ينبض من عروقه، ويبدأ بتمثيل التنمر على أخيه ليرصد آراء الشارع تجاه سلوكه!
في فيديوهات أخرى نرى أحدهم يسير مدعيّاً أنه كفيف يحمل ورقة نقدية من فئة الـ 5.000 ويطلب من المارة تصريفها له، ثم يأتي شخص نصّاب تم الاتفاق معه سابقاً فيعطيه 3.000 فقط، لتبدأ بعدها مظاهر النخوة في الشارع لإعادة المال للشخص المغدور.
البحث عن المدان
كنّا نحبّذ لو كان المحتوى المقدم يضيء على غياب حقوقنا بدلاً من البكاء علينا في شوارع العاصمة، كأن تُنتج مواد إعلامية عن العدد المُخجل للمدارس الدامجة أو عن عدد الكليات التي يمكن لذوي الإعاقة الدراسة فيها، أو عن نسبة التوظيف الضئيلة والمواصلات الغائبة والأرصفة التي أخذت صفة الخنادق، أو عن رغبتنا بوجود أماكن يستطيع ذوو الإعاقة الاستفادة من خدماتها.
لكن للأسف كلها أشياء “غير بياعة” ولا يمكن حصد التفاعل من خلالها، رغم أن هذا النوع من المحتوى يعطينا شيئاً من حقوقنا، ولكن للأسف في عصر الميتافيرس والسوشال ميديا الذي يغيب فيه القانون، يتم استغلال كرمتنا من كل طالب شهرة، ليقوم بجريمته الموصوفة في وضح النهار.
فصاحب المحتوى ذو العيون الدامعة، والقوانين الناقصة التي لا تضمن أي احترامٍ للخصوصية، والوزارات كلها، وفي النهاية أصحاب “الأعجبني” والتعليقات بالشفاء والدعاء هم جميعاً مدانون، فصناعة هذا النوع من المحتوى جريمة تستحق العقاب، والتجارة بدموع ذوي الإعاقة تستوجب غرامة تطال جميع المشاركين بها!
بالنسبة لي، الإعاقة تعني النضج ولا تعني الغباء و”الدروشة” والحاجة للدعاء، ولو عرف الشخص المعوق استغلال النضج الذي أعطته إياه إعاقته لما عانينا ما نعانيه في الواقع، فكل شخص من ذوي الإعاقة هو كائنٌ بشري له أحلامه وطموحاته، ولا يمكن أن يتحول إلى “بوست” على الفيسبوك لحصد التفاعل!
كتابة: خليل سرحيل