مع بداية تفشّى كوفيد19، تزايدت المخاوف حول كيفيّة تخصيص الموارد المتاحة لضمان نجاة أكبر عدد ممكن من الأفراد، ما دفع المؤسسات الصحية للتفكير بآليات “فرز” المرضى في ظلّ عدم كفاية أجهزة التنفس الصناعي أو الموظفين من الكوادر الطبيّة، بعدما نُصح المتخصصون في الرعاية الصحيّة بإعطاء الأولوية لأولئك الذين لديهم أفضل فرصة للتعافي في حالة تفشي المرض على نطاق واسع.
إجراءات تقنين الرعاية الصحيّة تلك، استندت في بعض البلدان إلى معايير تمييزيّة، مثل العمر أو الافتراضات المتعلّقة بجودة الحياة أو قيمتها، أو حتى على أساس الإعاقة؛ معايير تأثر بها بشكلٍ مباشرٍ حوالي مليار شخص من ذوي الإعاقة، أي نحو 15% من سكان العالم كانوا أكثر عُرضة للإصابة بكوفيد19 منذ بدايته، وأقلّ اِحتماليّة للوصول للرعاية الصحيّة أو بقية الخدمات.
ربما اعتبرت خطّة التنمية المستدامة لعام 2030 أنّ حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة أمرٌ محوريٌ، ووعدت “بعدم ترك أحد خلف الركب”، إلَا أنّ جائحة كوفيد19 عمّقت أوجه عدم المساواة التي يعاني هؤلاء الأشخاص، وعلى وجه التحديد الذين يعيشون في بيئات إنسانيّة هشّة في البلدان النامية والذين تقّدر نسبتهم بـ 80٪ من مجمل أعداد ذوي الإعاقة في العالم.
هشاشة أوضاع ذوي الإعاقة في ظل الوباء
بحسب وزارة الشؤون الاجتماعيّة في لبنان، بلغ عدد الأشخاص المتقدّمين/ات للحصول على بطاقة معوّق/ة حتى تموز 2020 نحو 114,000 شخص، ويُظهر المسح أنّ 61% من أصحاب الإعاقة هم من فئة الذكور، فيما تبلغ نسبة الإناث 39%. علماً أنّ مصادر متنوعة تضع العدد المقدّر للأشخاص ذوي الإعاقة في البلاد بنحو 400 ألف شخص.
لم تكن الأوضاع المعيشيّة والصحيّة والتعليميّة بأفضلِ حالٍ قبل تفشي كوفيد19 بل على العكس، تقول دراسة أجرتها مؤسّسة التعزيــز الاجتماعــي بالتعــاون مــع وزارة الشـؤون الاجتماعيّـة والهيئــة الطبيـّـة الدوليـّة، عن أوضاع الأشخاص ذوي الإعاقة في لبنان عام 2020، أنّ التحديّات المُتمثلّة بنقص فرص الحصول على خدمات الصحّة وغياب المعلومات والمعينات والتجهيزات، بالإضافة إلى التوزيع غير المتساوي للموارد الصحيّة، ونقص وسائل النقل المؤهلة ونسبة مرتفعة من البطالة، كانت جميعها أمثلة تُعطي صورةً واضحةً عن وضع هشٍّ لفئة تحتاج الكثير من بذل الجهد في سبيل تحسين أحوالها.
أمّا كوفيد19 فكان ذو وقع كارثي عليهم، إذ نتجت تهديدات جديدة في وضع ليس مهيّأً للاستجابة للأزمات، قالت هيومن رايتس ووتش إنّ خُطّة لبنان لمواجهة فيروس كورونا أهملت الأشخاص ذوي الإعاقة، الذين لم يحصلوا على المعلومات المتعلّقة بالفيروس أو يُؤخَذ برأيهم عندما وضعت الحكومة خُطّة الطوارئ.
علاوة على ذلك، تضرّرت المؤسّسات المعنيّة بتقديم الخدمات لذوي الإعاقة بسبب الجائحة، بحسب الحديث الذي أجريناه مع فايز عكاشة الناشط المجتمعي ومؤسّس جمعيّة “مؤشرات تنمويّة”، إذ تمّ إغلاق العديد منها بشكل نهائي أو أُغلِقت أقسام منها، كما جرى تقليص أعداد الموظفين/ات، وبالتالي عدد المستفيدين/ات من الخدمات. ويضيف عكاشة أنَّ الكثير من المؤسّسات توقفت عن دعم الجمعيّات أو غيَّرت سياساتها التمويليَة استجابةً للأزمة، بعدما تحوَل التمويل إلى برامج متعلّقة بالوباء بدلاً من إنفاقه على تقديم الخدمات.
مشاكل مضاعفة يواجهها المعوقين/ات حركياً
من محلّها الصغير لبيع الألبسة في مدينة صيدا، وعلى كرسيها المتحرك، تدفع عليا نفسها إلى الأمام ملتقطةً برشاقة العصا الطويلة لإنزال البضائع من أعلى الرفوف لكي تعرِضها على إحدى الزبونات. عليا عزّام فلسطينيّة الجنسيّة أصيبت بشللِ الأطفال في عمر العامين.
تُعدّ نسبة الأشخاص المصابين/ات بإعاقة حركيّة مرتفعة مقارنة بباقي أنواع الإعاقات، حيث بلغت نسبتها 55% في لبنان في حين أنّه من المرجّح أن تعاني امرأة من بين كلّ خمس نساء من الإعاقة في حياتها، “كوني امرأة ومعوّقة هو سبب كافٍ لأعاني من عنفٍ مضاعفٍ في هذا المجتمع”، تضيف عليا.
ومن أجل الحفاظ على حياتها اتبعت عليا أساليب وقاية مضاعفة خوفاً من اِلتقاط فيروس كورونا، وكانت بحاجة إلى طاقة نفسيّة كبيرة، وهو ما افتقدته وجعلها في حالة قلقٍ دائمٍ بسببِ الإهمال -بحسب قولها- من قبل بعض المراكز الطبيّة في التعاطي مع الأشخاص ذوي الإعاقة خلال الجائحة، لاسيما بعد الإشاعة القائلة بأنّه سيتمّ منعها بحجة الإعاقة من الوصول إلى العلاج في حال الإصابة، ويعدّ هذا مصدر ذعرٍ كافٍ لشعورها بالخوف وعدم الأمان الدائمين، كما أنّها اضطرت لإغلاق محلّها شهرين كاملين بسبب قرارات الحظر.
وتُضيف: “توجّب بذل المزيد من الجهود لتسهيل الحياة على فئة مهمّشة من الناس، مثل تقديم مساعدات اجتماعيّة بسبب ما عانوه من وضع اقتصاديّ رديء بعد تطبيق بروتوكولات الحجر الصحّي خاصّة بالنسبة لهؤلاء المعوقين/ات، الذين فُرض عليهم/ن كوفيد19 ترك أعمالهم/ن مثلي أو قامت الشركات والمصانع بالاستغناء عن خدماتهم/ن دون أدنى اعتبار إلى أنّهم/ن ربّما معيلون/ات أو بحاجة للإعالة.”
يذكر التقرير الوطني للإعاقة الذي نُشِر على موقع وزارة الشؤون الاجتماعية أنّ من أهمّ انتهاكات تنفيذ القانون 220/2000 على الصعيد الصحّي، هو عدم احترام المستشفيات الخاصّة والتابعة للدولة للقانون وللقرارات الوزاريّة والتدابير الإداريّة الخاصّة بتأمين الاستشفاء مجاناً لحاملي بطاقة الإعاقة، ممّا يُحمّل الأشخاص ذوي الإعاقة وأهاليهم مبالغ غير صغيرة لتغطية الفرق بين كلفة الاستشفاء وتغطية وزارة الصحّة المساوية مئة بالمئة.
أمّا على صعيد الخدمة الصحيّة خارج الاستشفاء فهي غير متوفرة مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ المستوصفات التي تديرها وزارة الشؤون الاجتماعيّة تقدّم الخدمة الطبيّة مجاناً لحاملي بطاقة الإعاقة، إلّا أنّ معظمها غير مجهّزة لاستقبال الأشخاص من ذوي الإعاقة الجسديّة.
إعاقات مختلفة … صعوبات متمايزة
في ذات السياق من تردّي الأوضاع لم تكن الحياة أسهل بالنسبة للأشخاص المصابين/ات بعمى جزئي أو كلّي وبالتحديد على النساء ربّات المنازل، تقول سميرة وهي أم لطفلين: “في الوقت الذي توجّب عليّ حماية أطفالي من الفيروس وتشديد المراقبة والحرص على تجنبهما الإصابة بالعدوى، كانا هما مقدّمي الرعاية الأساسيّة بالنسبة إليّ، وبسبب حاجتي للحركة وطلبي مساعدتهما بشكل فيزيائي، كان الحفاظ على مسافة اّمنة بيننا حُلماً يصعبُ تحقيقه، وسرعان ما التقطا الفيروس منّي بعد إصابتي به”.
التعقيم واتباع طُرق الوقاية خشية الإصابة بالفيروس مُمارسات شديدة الصعوبة بالنسبة للأشخاص المعوقين، وقد تختلف مستويات الصعوبة باختلاف نوع الإعاقة، فعلى سبيل المثال أصبح اللمس بالنسبة إلى المكفوفين/ات والذي يُعدّ أداة أساسيّة من أدواتهم/ن لاكتشاف العالم بمثابة تحديّاً شاقاً، وهو ما أكّده ناصر بلوط وهو إعلاميّ لبنانيّ، مضيفاً: “انتقلتُ إلى العمل عن بُعد في منزلي بسبب طبيعة عملي الميداني الذي يعتمد بشكلٍ أساسي على لمس الأشياء المحيطة والاحتكاك بالآخرين، وبسبب ما سمعتُه من معلومات مغلوطة حول الوباء أصبحتُ أكثر حرصاً على انتقاء مصادر الأخبار، كما حاولتُ نقل المعلومات الصحيحة للآخرين عبر المقابلات التي كنتُ أُجريها ضمن إطار عملي بهدف التوعية.”
ومن جهة أخرى كان لحسن مهدي وهو شاب ثلاثيني مصاب بضمور في النخاع الشوكي تجربة مختلفة في مواجهة الوباء، مُشيراً إلى أنّ المعلومات حول انتشار الوباء في البداية وطُرق العدوى لم تكن واضحة بالنسبة إليه كما كثيرين، لكنّ وضعه الصحيّ والأعراض الناجمة عنه مثل اختلال دائم في التوازن وصعوبة في المشي وحاجته إلى استخدام العكازات، جعله مهووساً في التعقيم خاصّة بسبب حاجته للاتكاء، واضطراره لِلمس أسطح مثل السيارات أو جوانب المصعد لمساعدته على التوازن، وتجنّباً لِلمس هذه الأشياء التي كان يشكّ في نظافتها وخلوّها من الفيروس، وقع عدّة مرّات على الأرض مُسبّباً الأذى لنفسه.
في حين أصبح التواصل بالنسبة للصمّ وضعاف السمع بمستويات أدنى من السابق بعد فرض ارتداء الكمامات؛ لأنها أضعفت من قدرتهم على فهم الكلام ومنعتهم/ن من مراقبة حركة شفاه الاّخرين مما جعل التواصل أكثر إرهاقاً، وعلى الرغم من ظهور كمامات شفافة تسمح برؤية الفم أثناء النطق، إلّا أنّها لم تلقَ رواجاً ولم تكن متاحةً على نطاقٍ واسع.
اللاجئون السوريون ما بين مواجهة الإعاقة وكوفيد19
“بعد أن أغلقت الجمعيّات أبوابها في ظل جائحة كورونا، لم أجد من يقدّم لي الرعاية الصحيّة، توقفت عن استكمال جلسات العلاج الفيزيائيّ الخاصّة بي، حينها أصبحت منعزلاً اِلتزاماً بإجراءات التباعد الاجتماعي، وبسبب تردّي الأوضاع انفصلت عنّي زوجتي، الأمر الذي شكّل ضغوطات نفسيّة كبيرة أدّت إلى الاكتئاب من ثمّ محاولة الانتحار”. يقول حسن الأحمد وهو لاجئ سوري مقيم في البقاع أصيب بالشلل على أثر تعرّضه لحادث أثناء العمل.
تُعتبر الموارد المتاحة لضمان التأمين العادل للخدمات الصحيّة الأساسيّة والضروريّة للاجئين السوريّين محدودة إجمالاً، ويُواجه الأشخاصُ ذوو الإعاقة السوريّون الذي يقدر عددهم بـ 65 ألف شخص، صعوباتٍ أكبر وأقسى في الحصول على الخدمات التي يحتاجونها من قطاع صحّي يفتقر إلى إمكانيّة الوصول على جميع المستويات.
في هذا الصدد نصح الأطباء حسن بعدم تلقّي اللقاح ضدّ فيروس كورونا بسبب حالته الصحيّة الحرجة، ممّا وضعه في أزمة على مستوى آخر هي خوفه من الإصابة بالفيروس، واعتماده آليات وقائيّة مضاعفة ومبالغ فيها بعض الأحيان. تُضيف والدته السيدة أم محمد بأنّ تأثيرات هذه المسألة تطال أُسراً بأكملها، وليس ذوو الإعاقة حصراً، فالوباء كثّف من حجم المأساة الواقعة عليهم لاسيما مع وجود فرد آخر في المنزل من ذوي الإعاقة الذهنيّة يحتاج إلى رعايةٍ صحيّة وجلسات للنطق، فالعديد من الجمعيّات المخصّصة لتقديم هذه الخدمات قد أُغلقت، علماً أن الانقطاع عن تلّقي العلاج للأشخاص ذوي الإعاقة كما حدث مع حسن يؤدي إلى زيادة فرصة انتكاس حالته الصحيّة.
خلق عصر الوباء تحديّات جديدة فُرِضت على الأشخاص ذوي الإعاقة، في وقتٍ لم يكن فيه لبنان بأفضل جاهزيّته لإدارة الأزمات والكوارث، كونه يمرّ بأزمة اقتصادية طالت بتأثيراتها جميع نواحي الحياة ممّا انعكس سلباً على تلك الفئة التي ازدادت تفقيراً وتهميشاً. في حين لم تتوقف آثار الوباء بانحسار أعداد المصابين/ات به، لأنّ الكثيرين منهم/ن بدأ الآن باستيعاب نتائج الأزمة، مثل الهشاشة الاقتصاديّة والنفسيّة، وتراجعاً بمستوى الصحّة الجسديّة.
إنتاج: أحمد الأشقر، ولاء صالح
تم إنتاج هذا التقرير بدعم من مؤسسة مهارات و منظمة internews ضمن مشروع RIT