ضجّت قاعة العرض بالتصفيق الحار لفوز فيلم “إلهام” بالمرتبة الأولى، ضمن مهرجان الأفلام القصيرة الهادف للتوعية بمخاطر العنف القائم على النوع الاجتماعي، برعاية كلٍ من مؤسسة ‘البحث عن أرضية مشتركة’ و’منظمة أبعاد’.
الفيلم الذي حبس الأنفاس طيلة مدة عرضه، وأبكى الكثير من رواد المهرجان، مستوحى من قصة حقيقية لشابة تدعى “إلهام”، مصابة بمتلازمة داون، تعرضت للتعنيف فالاغتصاب ثم القتل، في إحدى المناطق اللبنانية التي تنحدر منها مخرجة العمل ‘نهى ديب’، التي عايشت القصة في طفولتها، وبقيت عالقة بقسوتها في ذاكرتها، لتسلط الضوء اليوم من خلال فيلمها على قضايا التعنيف التي تتعرض لها النساء ذوات الإعاقة، في ظل التقصير الحكومي والمدني والإعلامي في تغطية هذه القضايا، واحقاق العدالة ومساعدة الناجيات.
توضح نهى في حديثها لـ ‘عكازة’ أن الفيلم لا يقتصر على حكاية ‘إلهام’ وحدها، بل تعداها للحديث عن قصص تعنيف بحق أخريات من ذوات الإعاقة، وصلت لهنّ المخرجة خلال رحلة البحث والإعداد للفيلم، ليخرج بشكله التوثيقي جامعاً لحكايات وبوح نساء وفتيات عديدات، مررن بتجارب قاسية، وبرغم اختلافها، واختلاف بطلاتها وأزمانهن، إلا أنهن قوبلن بنفس الإهمال والظلم والتعتيم فقط لكونهنّ نساء من ذوات الإعاقة.
تُنشد نهى أن يكون فيلمها بادرة للضغط من أجل حماية تلك النساء، إلا أن الحالات التي رصدتها ‘عكازة’ تؤكد أن العنف والإهمال لا يزال مستمراً!
جريمة بشعة في مخيم “عين الحلوة”
لم تمض أيامٌ عدة على عرض فيلم “إلهام” حتى ضجت مواقع التواصل الاجتماعي، بقصة الشابة (د.ب)، من سكان مخيم عين الحلوة، التي استدرجها المتهم الأول واغتصبها بشكل متكرر لسنوات، مستغلاً وضعها كلاجئة فلسطينية وصاحبة إعاقة، دون أي رادع أخلاقي.
ولم يكفِ الظلم والاستغلال الذي تعرضت له الطفلة سابقاً، والشابة اليوم، لمنع المتهم الثاني، وهو أحد أقارب الضحية، وبمثابة جدها، من ارتكاب نفس الجرم بحقها، فعند معرفته لما تتعرض له الطفلة، أخفى الأمر عن عائلتها، وقام باغتصابها هو الآخر، مستغلاً إعاقتها، وشاعراً بالأمان كونها لم تفضح المغتصب الأول حتى لحظة اكتشاف الجريمة.
عائلة الضحية المفجوعة اليوم بحجم الجريمة، استشعرت خوف وهلع ابنتهم طوال الستة أعوام الماضية، منذ كان عمرها 14 عاماً، ولم تستطع فهم أسباب ذلك حتى بدأت ملامح الحمل تظهر على الضحية، ليتبين أنها حامل في الشهر الخامس!
توجهت العائلة بدعوى قضائية ضد المتهمين، وبعد مضي شهر أوضح موقع بوابة اللاجئين الفلسطينيين، أن مكتب الآداب في مخفر حبيش بالعاصمة اللبنانية بيروت، أوقف المتهم الأول المدعو (ف.ع) بعد التحقيق معه، بينما لم يستطع توقيف المتهم الثاني بالجريمة (ع.ب)، إذ تم استدعاؤه ولم يحضر.
لتبقى العائلة المطالبة بحق ابنتها إلى اليوم، مهددة من قبل المتهم الثاني وعائلته لدفعهم إلى سحب الدعوى، وخاصة بعد محاولات الجاني التردد إلى منزل الضحية قاصداً التخلص منها بأي طريقة، ثم انتقاله إلى تهديد العائلة بأكملها بعد معرفتهم بفعلته، وبقاءه طليقاً إلى اليوم!
إدانة الضحية وتبرئة المغتصب في الشمال
بقيت حياة رهف (اسم مستعار)، وهي شابة بعمر 19 سنة، هادئة نوعاً ما، برغم أنها لم تحظ بالرعاية كغيرها من المصابين بمتلازمة داون، لكونها ابنة لعائلة شديدة الفقر، مؤلفة من ستة أشخاص، وتعيش بقرية نائية في الشمال اللبناني، حيث لا وجود لجمعيات ترعى ذوي الإعاقة وتهتم بشؤونهم.
إلى أن بدأت تتصرف بشكل غير معهود لشابة بحالتها، وتستخدم تعبيراتٍ جنسية وأسماء لأعضاء ذكرية تتحاشى العائلة المحافظة استخدامها أمامها، الأمر الذي دفعهم للشك حول مصدرها، فقاموا بمراقبة رهف، ليتبين تعرضها للاغتصاب المتكرر على يد عسكري من أبناء المنطقة نفسها، قام باستدراجها في كل مرة إلى منزل مهجور، وأعطاها الشوكولا كي لا تخبر أحداً عن فعلته.
وعوضاً عن محاسبة المغتصب والتوجه للقضاء، قامت عائلة الضحية بتعنيفها ومعاملتها بقسوة شديدة، وكأن الذنب ذنبها، وتم تبرئة المغتصب بحل عشائري، خوفاً من حرمانه وظيفته، ومنعاً للفضيحة. في حين تعيش رهف اليوم حبيسة المنزل، ممنوعة من الخروج، ولا تحظى بأي رعاية، وأي معاملة إنسانية، دون أن يتمكن أحد من حمايتها ومتابعة قضيتها.
مغتصب آخر طليق في بر الياس
مخيمات اللاجئين السوريين في لبنان ليست أكثر أمناً للنساء ذوات الإعاقة من جرائم التعنيف والاغتصاب، فـ مريم (اسم مستعار) الطفلة المصابة بضمور عضلي، يعيق حركتها، وقعت ضحية اغتصاب من قِبل قاصر عمره 15 سنة، استغل إعاقتها وصعوبة حركتها وقام باستدراجها إلى خيمته واعتدى عليها بعد أن أغلق فمها مانعاً إياها من الصراخ.
لاحظت الأم اصفرار وجه مريم عند عودتها، واشتكت من رفضها للطعام، دون أن تضع في الحسبان أن يقوم أحد بأذية فتاة من ذوات الإعاقة، لتُصدم بوجود دماء على ملابسها، تقول الأم: “بالبداية شككت بأنها قد بلغت وهذا الدم ليس إلا دم الدورة الشهرية، لكن الخدوش والجروح على الفخذين، تشير إلى محاولة فتح الأرجل الضامرة على بعضها بقوة نتيجة الإعاقة، عندها عرفت أنها تعرضت للاغتصاب”.
اتصلت الأم على الفور بموظفة حماية الطفل، الأمر الذي أثار حفيظة الشاويش المسؤول عن المخيم، فتهجم على العائلة متهماً إياهم بالكذب والسعي لتشويه سمعة المخيم، وأصر على مرافقة العائلة إلى الفحص الطبي، وهو ما تم رفضه من قبل الموظفة، لتأتي نتيجة التقرير الطبي مؤكدة وقوع الاغتصاب.
خرجت العائلة المكونة من خمسة أطفال والأبوين من المخيم على إثر الحادثة، وسط تهديدات الشاويش، ولوم المحيط للأم الشجاعة بسبب اصرارها على التقدم بشكوى، التي تأخر البت فيها، بسبب عدم حيازة العائلة للإقامة القانونية ووجوب دفع غرامة قبل اتخاذ أي إجراء في القضية، وعند تسوية الوضع غُيبت القضية في الأدراج دون معرفة الأسباب، ليعاد فتحها بعد سنتين ذاقت خلالها العائلة مرارة التنقل لإيجاد بيت آمن يمكنها دفع أجرته، مع شح في الخدمات التي حصلت عليها العائلة بعد خروجهم من المخيم.
تسبب لقاء الفتاة بالمغتصب في المحكمة بعد هذه المدة الطويلة، بدخولها من جديد في حالة كآبة وحزن شديدين، رغم جهود والدتها لمساعدتها على تخطي التجربة القاسية، وعدم حصولها على الدعم النفسي الكافي من قبل المنظمات الإنسانية. أشارت والدة الضحية إلى أن الجاني قد تم سجنه مدة لم تتجاوز الشهرين، ازدادت خلالها وتيرة تهديدات عائلته، وادعائهم بسعيهم لترحيل عائلة مريم من لبنان، وإدراج أسمائهم على لوائح المطلوبين للأمن السوري، كي لا يتمكنوا من العودة إلى سوريا في حال أرادوا ذلك، في حين أن القاصر المغتصب عاد طليقاً.
العنف من ذوي القربى
توضح الأستاذة الجامعية “حنان مطر” المعالجة النفسية ورئيسة مركز الحنان لرعاية ذوي الاعاقة، أننا نعيش في مجتمع ذكوري، والنساء عموماً يعشن مضطهدات، يٌنظر لهن نظرة دونية، فكيف إذا كانت المرأة صاحبة إعاقة وخاصة إعاقة ذهنية، فالمجتمع لا يجد فائدة من وجودهن، ولجوء الأهل لتعنيف ذوات الإعاقة قد يأتي بهدف حمايتهن من المجتمع الرافض لهنّ، فهنّ عرضة للتحرش والتنمر والعنف اللفظي والجسدي، بحسب الثقافة المجتمعية السائدة.
وتشير إلى أن العديد من أهالي ذوات الإعاقة يعتبرون أن احتياجات هذه الفئة تقتصر على الطعام والشراب الكافيين، والاهتمام بالنظافة والأدوية، ويغفلون الاحتياجات الإنسانية الاخرى لهنّ، على اعتبارهن غير مكافئات لبقية الأبناء.
وتضيف أن القوانين غير كافية لحمايتهن، ومراعاة أوضاعهن الخاصة، فذوات الإعاقة وخاصة الذهنية منهنّ قد يكنّ غير قادرات على التقدم بشكوى بأنفسهنّ، وقد ترفض عائلاتهنّ التقاضي قانونياً خوفاً من الفضيحة، وبالتالي لا يمكن التدخل بشكل صارم لمعاقبة الجناة، وتحقيق العدالة لهؤلاء النساء، كما أن العديدات منهن تبقينّ حبيسات المنزل، وكثيراً ما تتعرضنّ للتحرش والاغتصاب من قبل الدائرة الضيقة المحيطة بهن من الأقارب وليس من شخص غريب.
غياب الدعم والجمعيات المختصة
أشار تقرير موقع بوابة اللاجئين الفلسطينيين المتابع لحالة الشابة (د.ب) إلى أن: “الجمعيات والفصائل الفلسطينية المعنية لم تقدم الدعم سوى عبر الهاتف”، مستثنياً بذلك جمعية النجدة التي تتابع الملف والحالة النفسية للفتاة، ويتابع عبر النجدة 6 جمعيات أخرى معنية، إلّا أن هذه الجمعيات لم تقدم دعماً فعلياً على الأرض ولم تتابع الملف عن كثب.
تقول الدكتورة حنان مطر: “نلاحظ تقصير في تعاطي الجهات المعنية مع هذه الفئة، سواء كانت الدولة أو منظمات خارجية. كما أن فئة ذوي الاعاقة تحتاج لمتابعة دائمة وإلا فإنها ستتعرض لانتكاسات عند انقطاع تقديم الرعاية والعلاج، وهو الأمر الذي دفعها لإبقاء مركزها مفتوحاً طوال فترة الحجر في كورونا، بموافقة أمنية لضرورة استمرار العمل، فغالبية المنظمات والجهات المانحة تلتزم بمشاريع قصيرة الأمد، تأخذ شكل الأنشطة والجلسات المحدودة، وينتهي دورها بانتهاء المشروع.”
توّضح د. حنان: “لدينا درجات متعددة من الحالات الخاصة، فالإعاقة المترافقة بتأخر عقلي تختلف عن المصابين بمتلازمة داون الذي لديهم نشاط عقلي جيد، وبالتالي كل حالة تحتاج شكلاً مختلفاً من الرعاية والاهتمام”، مع الإشارة إلى أن غالبية هذه الفئات لا يتم توعيتها جنسياً بما يضمن حمايتها من التحرش والاغتصاب.
ومع وجود الحاجة الملحة اليوم لبناء قاعدة بيانات جامعة، لتوثيق وتقييم أعداد الحالات ودرجاتها، وتوفير مراكز متخصصة لتقديم رعاية دائمة ودورية لهذه الفئة من النساء، تزداد أهمية توعية الأهل والمجتمع المحيط بالمعوقين بضرورة التبليغ عن مثل هذه الانتهاكات وعدم الخوف من اللجوء للقانون، أو على الأقل طلب الدعم والمساندة من الجمعيات الحقوقية والمراكز المختصة.
كتابة: أحمد الأشقر، لبانة غزلان
*الحالات الواردة في هذه المادة، هي حالات تعيش بيننا، اضطررنا لتعديل الأسماء حفاظاً على سلامة وأمن الناجيات، اللاتي ما زلن إلى اليوم واقعات تحت سطوة الظلم والعنف والخوف من الوصمة الاجتماعية.