طفولة في عيادات العلاج
تخيل أنك طفل سعيد، يداك تعبثان بكل ما حولهما، محاولتان استكشاف العالم، وساقيك كثيرتا التعثر لشقاوتك وفضولك، كأي طفل آخر يخوض مغامرته الأولى مع محيطه. ثم تكتشف قبل بضعة أشهر من دخولك المدرسة أنك مصاب بـ ‘الحثل العضلي’ وهو ضمور في العضلات سيرافقك طوال حياتك.
هذا ما حدث مع آدم، مواليد سنة 1996، عندما كان في السادسة من عمره، إذ سقط عن سريره وكُسرت ساقه. ليتبين بعد التشخيص، أن الأمر ليس مجرد سقطة سيتعافى منها، بل هي رحلة طويلة من الصعوبات والنجاحات سيشاركنا تفاصيلها في هذه القصة.
لم يكن الخبر سهلاً على العائلة متوسطة الدخل، المؤلفة من خمسة أفراد، وتحت تأثير الصدمة ما هي الخيارات المتاحة أمامهم برأيك؟ إهمال المرض
الأدوية المكلفة
العلاج المتكامل
وهو أول خيار يتعرض له المعوق عادة، ولكن في حالة آدم فهو يعني الموت المبكّر.
لا تعالج ولكنها تبطئ من شراسة المرض.
دوائي + فيزيائي (لتخفيف التشوهات المصاحبة للمرض) + نفسي (لمساعدة آدم على تقبل حالته وتداعياتها).
العلاج غير الموجود
لعل “العلاج المتكامل” هو ما كنت ستختاره لو كنت أباً أو أماً لآدم. لكن العائلة المقيمة في ريف دمشق عام 2002، لم تعثر على مختصين بالعلاج الفيزيائي ذوي خبرات كافية في منطقتهم، ولم يكن هنالك جلسات معالجة بأسعار يتحملونها في العاصمة أيضاً.
“العلاج المتكامل متوفر في الخارج فقط” هذا ما قاله طبيب العائلة، بعد أن اقترح اسم جمعية تساعد من هم مثل حالة آدم، لتجد العائلة نفسها أمام خيار العلاج الدوائي فقط. العكاز الذي تحول لسيف مبارزة
آدم بدأ عامه الثاني في المدرسة برفقة عكازتين، يستند إليهما وتساعدانه على الحركة، تأقلم معهما حتى صارتا صديقتين تشاركانه خطوات الطريق إلى مدرسته، يحس بالأمان بوجودهما. إلّا أن بعض الأطفال في المدرسة سخروا من مشيته مطلقين عليه ألقاباً مزعجة محولين عكازيه لسيوف مبارزة.
لم يتقبل الأطفال في المدرسة اختلاف آدم رافضين اللعب معه ومستمرين بمضايقته. فتنامى الحاجز الذي يفصل بين آدم وأقرانه، وباتت العكازات التي كانت مصدر أمان يعينه على الحركة، عائقاً أمام اندماجه في محيطه، ليصبح سؤاله الملح والدائم لوالدته: “متى سأشفى لأستطيع اللعب مع رفاقي؟”
الأم المتألمة لعزلة آدم، اصطحبته إلى نشاط ترفيهي تقوم به إحدى الجمعيات القليلة التي تعنى بأصحاب الإعاقات المختلفة مثل المصابين بالتوحد والتأخر العقلي وأصحاب متلازمة داون، والمكفوفين والصم والمعوقين حركياً، علّه يجد من يشاركه حالته فيكوّن صداقات جديدة تعوضه عن رفاق المدرسة.
آدم يحظى بصديقه الأول
ضمن إحدى نشاطات الجمعية حاول ‘علاء‘ التقرب من آدم الذي لم يعره اهتمام كاف، لكن المعروف عن علاء -المصاب بـ متلازمة داون- رهافة قلبه ورفضه للظلم، فما إن شاهد صديقه آدم وهو يسقط أرضاً بعد أن دفعه أحدهم عمداً، حتى سارع للدفاع عنه بشراسة، ومن يومها أصبحا صديقين يمضيان الوقت معاً في الحي ويشاركان في أنشطة الجمعية.
إذا كنت مدير/ة جمعية بمنطقة ريفية، ما هي الأنشطة المناسبة ليشارك فيها آدم ورفاقه المعوقين؟ الرقص والغناء
ألعاب الورق
ألعاب الكرة
الشطرنج
ميكانو التركيب
إجابة خاطئة، لأنه من الصعب جداً تصميم نشاط دامج لجميع الإعاقات بنفس الوقت، نظراً لتفاوت قدرات المشاركين/ات.
التمييز لا يقتصر على الظاهر
استمر آدم بالذهاب إلى المدرسة الحكومية القريبة من بيتهم، رغم ازدياد معاناته في الصعود والنزول على أدراجها الكثيرة. وفي الصف الرابع الابتدائي تعرف آدم على “يلي ما بيعرف يقرأ اسمه”، ‘مصطفى‘ الذي يكبر أطفال جيله سناً وحجماً. وعلى الرغم من أنه لا يعاني من إعاقة ظاهرة، لكنه يوصم بالكسل وقلة الفهم، نظراً لـ ‘عسر القراءة‘ الذي لديه، مما جعله فريسة تنمر زملائه ومتأخراً عن أبناء جيله في التحصيل العلمي.
معلمة الصف حاولت بذل جهد إضافي لمساعدة مصطفى، وحين لم تلمس تقدماً سريعاً في وضعه تجاهلته، غير مدركة خصوصية حالته. إلّا أن آدم منذ اللحظة الأولى أدرك أن السخرية التي يتعرض لها مصطفى مشابهة تماماً للتمييز الذي يتعرض له هو، فعرض عليه المساعدة من خلال تقسيم الكلمات أثناء القراءة، ومنذ ذلك الوقت أصبحا صديقين تجمعهما الشقاوة، يدافعان عن بعضهما في المدرسة وخارجها.
من العكاز إلى الكرسي المتحرك
مع تطور مرض آدم وازدياد ضمور عضلاته التي عجزت عن حمل جسده، استبدل عكازيه بكرسي متحرك. ولعل ذلك لم يكن أبرز المعوقات التي واجهها الفتى ذو 13 سنة، فالوصول إلى الطوابق العليا حيث يدرس زملاؤه في الصفوف الإعدادية، على كرسي متحرك في مدرسة غير مجهزة لأصحاب الكراسي، كانت أشد المعوقات وطأة على مستقبل آدم التعليمي.
رفض مدير المدرسة نقل غرفة الصف السابع إلى طابق أرضي، فاضطر والده لحمله كل صباح إلى الطابق الثاني لوضعه في صفه. وفي أوقات الاستراحات، لم يحظَ آدم برفاهية قضاء الاستراحة في الباحة، بل ظل ملازماً مكانه في غرفة صفه، تخفف عنه والدته بمجالسته وإطعامه ومساعدته لقضاء حاجته في حمامات غير مجهزة، إلى حين رنين الجرس وانتهاء الدوام.
مستقبل آدم على المحك
إصرار عائلة آدم وتصميمه الذاتي على إتمام تعليمه، في مثل هكذا ظروف، مثالٌ لتحدي الصعوبات والنضال من أجل حياة أفضل. لكن سبعة وثلاثين يوماً من الجهد المستمر في حمل آدم، سببت انقراصاً في فقرات الظهر -بداية ديسك- عند والده، فصار من الصعب على العائلة الاستمرار على المنوال ذاته!
برأيك ما هي الخيارات المتاحة أمام آدم في هذه المرحلة؟
عدم الذهاب للمدرسة
التسجيل في مدرسة خاصة
اقناع المدير بنقل الصف
اختيارك هذا هو بمثابة إعدام مبكر لمستقبل آدم.
أقساطها مرتفعة ولن يستطيع أهل آدم تحملها.
رغم أنه الخيار المنطقي، لكن المدير لديه مخزون لا ينتهي من الحجج لرفض ذلك، بالمقابل استطاع اقناع العائلة بخيار آخر …
رحلة الصداقة الصامتة
بين أمريّن اختارت عائلة آدم التضحية لإكمال تعليمه، فكان على آدم الاستيقاظ فجراً قبل جميع رفاقه في مدرسته القريبة، ليلتحق بالباص الذي سيقيله إلى “معهد الأمل لذوي الإعاقة الحركية”، بقلب العاصمة دمشق في حي باب مصلى. سلك الطريق الطويل إلى مدرسته الجديدة بعينين مغمضتين، وقلب مضنى، لا يخفف عنه صمت المسافات، سوى صمت عذب. صمت ‘شيماء’ الصماء التي تحادثه بلغة الإشارة، وتجلس بجواره في الباص المشترك الذي ينقها إلى “معهد المعوقين سمعياً” المجاور.
لم يكن آدم يعرف شيئاً في لغة الإشارة، والتواصل مع شيماء من خلال الكتابة كان صعباً عليها، فمهاراتها التعليمية لا تزال بدائية، فهي لم تحظَ بمناهج مخصصة ومتناسبة مع مقدرات الصم، إلا أنهما وجدا شكلاً من التواصل جعل رحلتهما اليومية إلى المدرسة أقل عناء وأكثر مرحاً.
لبنان الخيار الأقرب للنجاة
في عام 2011 بدأت الاضطرابات في سوريا، وعلى إثرها تعطل الباص عن نقل الطلاب إلى المعهد مرات عدة، كما واجه العاملون في المعهد صعوبة في الوصول إليه. لكن أمل آدم بمتابعة دروسه والتقدم لامتحانات الشهادة الإعدادية، وكذلك أمله بلقاء صديقته شيماء لم يتوقف. وفي عام 2013، أدرك أنه لن يراها مجدداً، بعد أن أغلقت مدرسة الصم وتحولت لمركز إيواء للنازحين الهاربين من الموت.
كان لآدم نصيب في التهجير هو الآخر، حين قصفت منطقتهم بشكل كثيف عام 2015، ليهرب مع عائلته إلى دمشق بثيابهم فقط، حيث استقبلهم قريب لهم، لكن سرعان ما أصبح المنزل الصغير ضيقاً على العائلتين معاً. مما دفع والدي آدم للتفكير بخيارات أكثر أمناً، خاصة بوجود آدم غير القادر على الحركة والهرب، فوقع اختيارهم على لبنان كأقرب مكان للجوء.
الصم لا يسمعون صوت الموت
طين وحصى مخيم اللجوء في البقاع اللبنانية، جعل كرسي آدم المتحرك كرسياً فقط، يجلس فيه عاجزاً عن التجوال، فازداد انعزاله، وبات سجين خيمة لا يفارقها، ولا يحادث أحداً، سوى ‘لبيب‘ الشاب الأصم، الذي التقاه صدفة بعد سنة من اللجوء، ليشاركه إحساسه بالوحدة بعد أن فارق أعمامه وأبناء عمه الذين يتحدثون مثله لغة الإشارة، بسبب وراثتهم الصمم عن زواج الأقارب.
لبيب ذو 32 عاماً، أعاد إلى آدم ذكرى صديقته شيماء، فتألفا بسرعة وود، ليحدثه لبيب عن معاناته قبل لجوئه إلى لبنان، بسبب إعاقته، إذ كان وأقاربه معزولون عما يحدث من حولهم، تصلهم الأخبار عبر قناة واحدة -الجزيرة الإخبارية- لأنها الوحيدة التي تبث أخبارها بوجود مترجم لغة الإشارة. لا جمعيات ترعاهم ولا أحد يعير اهتماماً لسلامتهم في الحرب، حتى جاء اليوم الذي وجد فيه لبيب نفسه وسط الشارع، الناس يركضون من حوله خائفين، لم يدرك ما حدث حتى وجد أعمدة الدخان تتصاعد من البناء المقابل، حينها فقط عرف أن إحدى القذائف طالت حيهم، فقرر الهرب مع عائلته إلى بلد أخر.
العجز ليس بالإعاقة الجسدية
فقدان الشهادات الرسمية والأوراق الثبوتية حين هربت العائلة من منزلها، منعت آدم من إكمال دراسته في لبنان، فيما زادت العزلة وصعوبة التنقل في المخيم الضغط الذي يتحمله الشاب الحالم، كل ذلك لم يكن ليؤثر في عزيمة آدم. إلّا أنه في ليلة خريفية من ليالي عام 2018، شهد حادثة غيرت مجرى حياته..
شباب رعناء يتهجمون على مراهق شاب، يتألم الأخير بصمت عاجزاً عن الدفاع عن نفسه، فيزداد المتهجمون عنفاً، صرخ آدم مطالباً إياهم بالتوقف، لم يكترثوا لصراخه، شد على عجلات كرسيه متحركاً نحوهم، لتعلق بالطين الرطب وتتوقف عن الحركة، نظر من حوله ناشداً يد العون بلا جدوى، وحده أراد إنقاذ المراهق المصاب بالتوحد لكن مساهمته لم تكن كافية.
نادي قراءة يفك العزلة
أثرت تلك الحادثة على آدم بشكل كبير، وأحس بنفسه عديم الفائدة، بل أكثر من ذلك. نظر لنفسه على أنه العبء الذي يضطر والداه للمفاضلة بين قوْت العائلة وثمن أدويته المكلفة، ويقتطعون من إعانات مفوضية اللاجئين القليلة من أجل علاجه، فأصبح يفكر كثيراً بإنهاء حياته ليزيل عن كاهل عائلته عناء رعايته واحتياجاته.
لكن ‘سوسن’ مديرة احدى الجمعيات المعنية بالمعوقين، وهي كفيفة شقت سبيلها للحياة بصعوبة، تعرفت على آدم في إحدى جولات الجمعية للمخيمات عام 2019، لمست فتور الحياة في قلب الشاب، فدعته لنادي القراءة الذي يجمع حالات مشابهة لحالة آدم، يقضون فيه وقتاً ممتعاً في التعلم وتبادل الخبرات. بدأ آدم بمغادرة عزلته، في وسط يتقبل اختلافه ويشاركه معاناته، وهناك تعرف على كارول الشابة اللبنانية المتطوعة في الجمعية التي خلقت في قلب آدم شعوراً مبهماً علّه الحب!
كورونا والتمييز المضاعف
سرعان ما حلّ آذار 2020، ليغلق لبنان كغيره من البلدان في مواجهة جائحة كورونا، بمعلومات غير كافية حول طبيعة المرض وطرق الوقاية منه. ومع تهميش وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لفئة المعوقين، فلا حملات توعية تستهدفهم، فضلاً عن الشائعات الكثيرة التي رافقت الجائحة، مثل ربط الإصابة بالفيروس بحصول إعاقة كأثر جانبي دائم بعد الشفاء أو عند تلقي اللقاح.
ظهرت على آدم بعض الأعراض المؤلمة، ولم يكن متأكداً من إصابته، إلا أن تلك الشائعات سببت له أذى نفسي أكثر من الألم الجسدي الذي عاشه حينها وتعافى منه.